قبل سنوات، وفي غمرة انسجامه أثناء قيادة الأوركسترا السيمفونية السورية، هوى المايسترو صلحي الوادي عن منبر القيادة وفقدت العصا السحرية والحركة الموسيقية الكلاسيكية أباً ومؤسساً أرسى ثقافة موسيقية غربية كلاسيكية في المجتمع السوري، خاصة والعربي عامة، عزفاً وتأليفاً وسماعاً منذ أوائل ستينيات القرن الماضي.
غادر الحياة ليترك فراغاً كبيراً في منابر القيادة في الفرق السيمفونية العربية التي طالما استضافته، إضافة إلى مسارح العالم التي جال فيها وبات له موقعه وثقله. غاب الموسيقي وقائد الأوركسترا العراقي، سوري الأم والنشأة بعد معاناة من المرض أقعده سنوات وأبعده عن عشقه الكبير، عن الموسيقى الكلاسيكية التي بذل حياته لها وبخاصة من أجل تربية أجيال من الموسيقيين العرب يكونون على مستوى موسيقيي العالم ثقافة وعزفاً وتأليفاً وتنظيماً واحتراماً للموسيقى وللآلة وللمستمع معاً.. منذ أن أسس في دمشق أول مدرسة موسيقية جدية تتمتع بالاحترام من كافة طبقات المجتمع.
تطلع صلحي الوادي طوال حياته نحو تأسيس أوركسترا سيمفونية في سوريا. فمنذ أن عاد إلى دمشق لم تغب عنه الفكرة وهو القادر في القيادة والتأليف الموسيقي فألف مقطوعات غاية في التفرد. واشتغل مع رفيق الصبان في مسرحياته وألف موسيقى للأفلام وغيرها للحجرة.. وألف للأوركسترا "قصيدة حب" و"تأملات على لحن عبد الوهاب".. وكتب موسيقى لقطع الأوركسترا..ـ رغم أنه لم يجد وقتاً كافياً للتأليف فإدارة المعهد العربي للموسيقى الذي أسسه كانت تستحود على معظم وقته..
بعد تأسيس الأوركسترا السيمفونية عام 1993 ألف موسيقى متقنة ومدروسة على النظام الهارموني والتوزيع الأوركسترالي امتزج فيها التراث الموسيقي العربي بالموسيقى الغربية .ـ
أما قائد الأوركسترا صلحي الوادي فقد كان له حضور خاص وشخصية قوية تفرض على أعضاء الفرقة احترامه رغم أنه عرف بدكتاتوريته في العمل، وصرامته حد القسوة لكي يضبط أعضاء الفرقة صغيري السن..
فحين أسس المعهد العربي للموسيقى استعار أساتذة من الخارج لتعليم الطلبة الذين شغلوا مناصب رؤساء أقسام إلى أن تخرجوا ودخلوا المعهد العالي للموسيقى اعتمدهم في الفرقة السيمفونية وكان يصر على ضرورة كثرة التدريب.. وهذا كان سبباً لوصول أعضاء الفرقة السوريين إلى العالمية..
أما عن صلحي الاداري فقد بدأ بادارة المعهد العربي للموسيقى ثم المعهدين العاليين الموسيقي والمسرحي ومدرسة الباليه وانتُقد كثيراً في الصحف وكان هذا الانتقاد يثير ضحكه لأنه كان يعرف تماماً ما يفعل وإن كل مجتهد ينال نصيبه من التجريح والنقد فلا يلقي آذاناً صاغية للمهاترات، بل يرد عليها بالجهد والعمل، وهذا ما لمسه المسؤولون في تلك الفترة ليسلموه هذه المناصب لأنهم كانوا واثقين من نجاحه ومن أنه سيرفع من مستوى المؤسسة التي يتسلمها فثقافته الآتية من تعليم صارم في شتى مراحل حياته وبخاصة مرحلة تعلمه في بريطانيا وأسلوبه النظامي المعروف سيثبت أن الصرامة ضرورية في مراحل التعليم المختلفة..
وصلحي الانسان كان تعامله مليئاً بالانسانية مع العائلة، ومع الآخرين. لم يقل انسانية عن تعامله مع أهل بيته فلا يمر يوم إلا وله قصة مع طلابه أو أصدقائه ومواقف ونفحات تعبر عن انسانيته وتفاعله مع مآسي الآخرين ومشاكلهم.
كان لديه اهتمام كبير بالشعر العالمي ويطلع على كل شيء انكليزي ياباني فرنسي ألماني.. حاول بقدر ما يستطيع أن يقدم للموسيقى في سوريا ولكنه ظل غير راض عما وصل إليه فكان يريد الأكثر والأفضل لما يحمله من أفكار مميزة لكن المرض أوقفه عن تقديمها....
ومن حكايات صميم الشريف حول الراحل قال: صلحي الوادي احترم نفسه وفنه ومثله العليا التي نبع منها احترامه للفن والناس وأخلص لفنه. كان مثقفاً يهوى التجدد في الفكر الموسيقي لدى العازف والمؤلف والمعلم وقائد أوركسترا ربى أجيالاً على الاستماع إلى الموسيقى الجادة ولاسيما الغناء الأوبرالي... كان يتطلع إلى النجاح ويحقق أهدافه بجهد وإرهاق وتصميم.
الزمن
كان يعرف أسرار كل آلة موسيقية في العالم ويعرف السلالم الموسيقية من غربية وعربية وصينية وهندية ويونانية وسودانية معرفة تامة ويعرف عيوب وقدرات كل واحد منها. وهذا أهله لأن يتبحر في موسيقى الشعوب كلها. عانى كأي موسيقي يبحث عن الكمال في مؤلفاته مشكلة الزمن وعندما اكتشف (بارتوك) ومسألة صياغة الألحان الشعبية بلغة موسيقية عالمية لتعيش أبداً فعل مثله. وعندما وجد الحداثة في مؤلفات (بروكوفييف) تحاصره انكب لدراستها في زمن كانت فيه موسيقى (بروكوفييف) شبه مقبولة. وعندما وجد مؤلفات الأعلام الشهيرة الخالدة تتحدث بلغة عصرها أراد للغته الموسيقية أن تسبق عصرها. ومن هنا كان صراعه الفكري فيما يكون وفيما يجب أن يكون.
ويذكر الشريف أيضاً: أذكر أنه عندما كتب مقطوعته التأملية على لحن (حياتي أنت) لمحمد عبد الوهاب قلت له هل هي عمل تجريبي على أسلوب شوستا كوفيتش فأجابني باقتضاب: إنها لغة العصر الموسيقية وذكرني جوابه هذا برد مماثل تلقيته من المؤلف التشيكي جوزيف بوحاتش حول تأثير شوستا كوفيتش على مؤلفاته فقال لي وقتذاك: إنها اللغة التي يتحدث بها اليوم أغلب المؤلفين. وبعيداً عن المراحل التأليفية عند صلحي الوادي فإن الإبداع الذي هدف إليه في أواخر سني السبعينيات نجده في الأدب الموسيقي الذي كتب فيه ثلاثيته الجميلة ورباعيته الأولى التي عزفها رباعي برلين الشهير عالمياً وكان إقدام رباعي برلين على تقديم عمله آنذاك شيئاً هاماً في حياته.
وله الرباعية الثانية وكذلك افتتاحية الكونشرتو العربية التي طرح فيها هموم العرب برؤيته الفكرية الخاصة كانت نموذجاً لتصوره لما ستكون عليه الموسيقى في مستقبل أيامها.ـ ففي الجزء الخاص بآلات الكمان والأسلوب الذي اتبعه فيه، حيّر عازفي الفرقة الوطنية السيمفونية لأنه تجاوز فيه ما هو تقليدي ومتبع إلى الجديد الذي استحدثه ولعل هذا الجديد المستحدث هو الذي جعل قائد الفرقة الحالي ميساك باغبادوريان يعيد النظر فيها لتقديمها من جديد بعد أن يستوفي دراستها.
وحول المايسترو صلحي الوادي يذكر البعض أن لصلحي الوادي أيادي يبيضاء على الموسيقى الكلاسيكية الغربية في سورية.ـ وعلى تشكيل النواة التي أصبحت فيما بعد الكتلة الموسيقية سواء من ناحية التأهيل أم من ناحية التنفيذ كموسيقيين منذ ستينيات القرن الماضي والتي شكلت فيما بعد البدايات وأدت إلى ولادة السيمفونية الوطنية منذ نحو اثني عشر عاماً. وصولاً إلى موسيقيين قادرين بحكم تأهيلهم العلمي والفني على جلوس مقاعد الأوركسترا.
يعتقد كثيرون أمثال الموسيقي رعد خلف إن صلحي الوادي يستحق لقب فنان عالمي لما يمتلك من ميزات عالية فنية وإدارية استطاع من خلالها أن يشكل هذه المساحة الكبيرة من الموسيقى التي نحن عليها اليوم...
استاذ
كان في المعهد الموسيقي أستاذا وإدارياً صارما مرعبا حين يريد ومضحكا ممتعا في كثير من الاحيان كما تروي حنان قصاب حسن . وجهده الكبير كان ينصب على جيل الأطفال من الموسيقيين وقتها وكأنه يريد أن يربي من خلالهم ذائقة جديدة وأعراف سماع مختلفة..ـ وتقول: جميل أن يعمل المرء ما يحب والأجمل أن يتقنه. لقد أحب الموسيقى وأعطاها من روحه ووقته فترك بصمة خاصة به.. دائماً وعلى مدى الأيام سيقتدي به كثيرون.
لكثرة ما كان يتنقل في موسيقاه في كل المناطق، كان رحمه الله يقول: طالما هناك ناس تستمع للموسيقى فسأذهب إليهم حتى لو كان هذا في القمر.
يقول "الوادي" إنه يحتار دائماً في كيفية الرد على السؤال: هل موسيقاك شرقية أم غربية؟
الأمر ينطبق على غالبية المؤلفين الشرقيين: لماذا تتحول موسيقاهم إلى موسيقى شرقية الحركات بطيئة ومنسابة من "أداجيو" و"لارجو" و"موديريتو" ثم إلى موسيقى غربية "أو مزيج من الاثنتين" في الحركات السريعة :ألييغرو" و "أليغريتو"؟ ، ولعلّ هذا السؤال يلقي بعض الأضواء على طبيعة الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية.
يذكر أن الراحل صلحي الوادي كانت له محطات عدة في بيروت إذ قاد الأوركسترا السيمفونية الوطنية اللبنانية قاد فرقاً لموسيقى الحجرة من سوريا ولبنان وعزفت له العديد من مقطوعاته. إضافة إلى جولات عديدة مع الفرقة السيمفونية السورية في أنحاء العالم حيث لقي معها الترحيب والتأهيل والنقد الإيجابي البناء.
سيرة
ولد صلحي الوادي في بغداد ،العراق عام 1934 لأب عراقي وأم أردنية.
بدأ دراسته الإبتدائية في دمشق، سوريا، والثانوية في الإسكندرية، مصر (كلية فكتوريا).
في عام 1948 بدأ دراسة الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى بالإسكندرية .
أكمل دراسته في الأكاديمية الملكية للموسيقى في لندن(1953 ـ 1960) مركزاً على التأليف وقيادة الأوركسترا، كما درس العزف على الكمان والفيولا.
تعرف إلى عازفة البيانو الانكليزية سينثيا وتزوجها.
عاد إلى دمشق عام 1960 وأسس المعهد العربي للموسيقى وعين مديراً له في عام 1961 حتى عام 2001.
في عام 1990 عين عميداً للمعهد العالي للموسيقى والمعهد العالي للفنون المسرحية.
تم تشكيل الأوركسترا السيمفونية الوطنية في عام 1993، وعين صلحي الوادي قائداً لها وقدمت هذه الفرقة أول أوبرا في سورية "دايدو وإينياس" لهنري بورسيل وذلك في عام 1995 بالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني وشمل العمل مغنين منفردين بريطانيين وكورس المعهد العالي وأعضاء الفرقة السيمفونية الوطنية السورية.
في عام 1995 قام الرئيس حافظ الأسد بتقليد صلحي الوادي وسام الدولة للشرف من الدرجة الأولى لخدماته التي قام بها لأجل الموسيقى في سوريا.
كتب صلحي الوادي بشكل مكثف للأوركسترا، وكتب موسيقى تصويرية لمسرحيات شكسبير (العاصفة ـ ماكبث ـ حلم منتصف ليلة صيف ـ أنتيغون) وكتب أيضاً موسيقى حجرة وموسيقى للأفلام.