في هذا اليوم ، السابع والعشرين من تمّوز ( يوليو . يوليوز. جْوِيّـيـة ... إلخ ) في العام الحادي عشر بعد الألفَين ، في هذا اليوم، ومنذ الرابعة فجراً آنَ استيقظتُ ، أُغِذُّ المسعى إلى جزيرة تينوس الإغريقيّة العائمة أبداً في بحر إيجة.
دعاني إلى مهرجانٍ شِعريّ هناك أناسٌ أغارقةٌ لا أعرفهم . سألوني أن أرسل لهم نصوصاً عيّنوها هم ، من بينها :
أميركا ، أميركا ...
وليل الحمرا
قالوا إنهم سينقلون النصوص إلى لسانهم الـمُـبِيـن ، وإني سأقرأ القصائد بلغتها الأصلِ : العربية.
قلتُ في نفسي : لقد أحسَنوا الإختيار . القومُ ، إذاً ، أخيارٌ !
تذاكر السفر أُرسِلَتْ مبكِّــرةً .
تسلّمتُ إشعاراً بها ، وأنا في طنجــة.
الآن ، أنا في مطار هيثرو ، القاعة الأولى ، التي لم أنطلِقْ منها منذ حينٍ.
الشركة الناقلة : طيَران إيجــة .
لم يبقَ إلاّ إيكاروس !
*
الساعة الآن ، في المطار ، العاشرة والدقيقة الأربعون .
بوّابةُ المغادرة تُفتَح في الحادية عشرة وعشرِ دقائق .
المغادرة : في الحادية عشرة والدقيقة الخمسين.
أتلَبّثُ :
كأسُ بيرةٍ إيرلندية سوداء . شرائح بطاطا مقليّة طازجة .
نسوةُ الخليجِ يأتين مجلبَباتٍ بالسواد .
لا أدري لِمَ فُرِضَ على الخليجيّات السوادُ .
الرجالُ هناك بالأبيض.
النساء بالأسود.
الرجعيةُ صارخةٌ حدّ اللعنة !
لِمَ لا تنقلب الأمور؟
الخليجيّون يرتدون الأسود.
والخليجيّاتُ يرتدين الأبيض ... في غير ليلة الزفاف.
سيكون العالَمُ أجملَ !
الخليجيّاتُ رائعاتٌ . والخليجيّون مُرَوَّعون !
*
عليّ الآن أن أُطبِقَ النوتبوك .
أن ألتحقَ ببوّابة المغادرة !
بِتُّ ، البارحة ، في فندق آفرا بمنطقة رافينا ( منطقة الميناء ) وكان للاختيار سببٌ وجيهٌ جدّاً ، إذ بمقدورك أن ترى ، من شرفة الغرفة ، السفينةَ التي ستأخذك إلى الجزيرة.
هذا الصباحَ ، استيقظتُ مبكِّراً أيضاً ، في حوالَي الرابعة والدقيقةِ الثلاثين . أنا اكتب الآن ، وفي المرآةِ تنعكسُ أضواء المرفأ الإغريقيّ . هلالٌ رهيفٌ في السماء الصافية . هلالٌ افتقدتُهُ طويلاً في لندن الغائمة.
اليوم هو الثامن والعشرون من تمّوز.
مساء أمس ، كنتُ جائعاً.
بعد خطواتٍ خارج الفندق كان مقهى ومطعم وجباتٍ ســريعة.
طلبت ، مستخدِماً بضعَ كلماتٍ يونانيّةٍ من بقايا الذاكرة القبرصية ، ومفرداتٍ إنجليزية ، هامبرغر دجاج ، والأهمّ من الدجاج كان النبيذ الذي جاءني في دورق يسَعُ نصفَ لترٍ. سألتُ النادل عن أصل هذا النبيذ الأحمر الخفيف ذي الحلاوة المستسرّة ، قال : من أتيكــا .
اليونان تنهمر من جديد!
*
كان الرجل المكلّفُ استعلاماتِ الفندق زوّدني تذكرتَين للإبحارِ إلى تِينوس والعودة منها . التذكرتان باللغة اليونانية ، لكني أستطيع التمييز بين تذكرة الذهاب ، وتذكرة الإياب ، بتاريخ السفر وموعدِه.
كأنني في الصين!
وضعتُ تذكرة الذهاب في جيبي ، جاهزةً.
قال لي موظف الاستعلامات إن فطور الصباح يبدأ في السادسة والنصف . وأضاف رحلتُك إلى تينوس ستكون في السابعة والنصف . لديك وقتٌ.
في سالف الأيام ، لم أكُنْ بهذا الحرص على المواعيد.
أتذكّرُ ، مرّةً ، أنني كنت مغادراً دمشق صباحاً ، بالطائرة ، أيّام مطار الـمَـــــزّة .
اقتربت السيارة من المطار ، لكن طائرتي كانت أقلعتْ للتوّ !
لكنْ في تلك الأيام كانت الأمورُ أيســرَ .
*
قد تكون السماءُ صافيةً
غير أني أنوءُ بالسُّحُبِ ...
*
الساعة الآن ، تقترب من السادســة .
في البُعدِ أرى الأفقَ ورديّاً .
عليّ أن أرتِّب حقيبتي ، وأطْبِق النوتبوك..
الصباحُ ينجلي !
*
أدخل السفينة ( العبّارة - الـمُعَدِّية بفصاحة مصر ) في السابعة .
يبدو أن مجلسي في السفينة كان للأكابر .
جاء ثلاثة أشخاص وجلسوا معي .
رجلان وامرأة .
حاولت المرأةُ بلطفٍ شديدٍ إقناعي بالانتقال إلى موضع آخر باعتبار أن صديقاً لهم كان يُفترَض أن يجلس معهم . اعتذراتُ بدعابةٍ قائلاً إنني لا أفقفه الجواب إذا ما سألني أحدٌ من موظفي السفينة عن سبب تغيير مكاني . قلت لها إنني اطرشُ في الزفـّــــــــّة !
الشخصُ الذي كان يواجههُني ، يرتدي ملبساً أسودَ .
سألتُه بلا مقدّمات: هل أنت راقصٌ ؟
نظرَ إليّ غيرَ مستغرِبٍ وقال : كيف عرفتَ ؟ نعم . كنتُ راقصاً . لكنّ ذلك كان منذ زمنٍ بعيدٍ . كيف عرفتَ ؟
قلتُ : أنا كاتبٌ . مهنتيب أن أعرف الناس.
قال: أنا كاتبٌ أيضاً . شاعرٌ .
سألتُه : أأنت مدعوٌّ إلى المهرجان ؟
الهامّ أننا تعارَفْنا . وحين عادت المرأة قدّمني إليها . هي زوجةُ شاعرٍ يونانيّ معروف . جاء الشاعرُ اليونانيّ المعروفُ : أأنت سعدي يوسف؟
السفينة تواصلُ عبورَها .
بلغْنا الجزيرة حوالَي التاسعة والنصف مساءً .
Tinos Beach
هو فندقُنا .
بحرُ إيجة رائقٌ أزرقُ وهاديء .
والسابحون كثارٌ لكن الشواطيء غير مزدحمةٍ .
اليونانيّون يتصرّفون ، على طبيعتهم . ثمّتَ حكمةٌ بسيطةٌ ، ورضا نفسٍ ، وابتهاجٌ بالحياة .
ما أبعدَهم عن وجوم الإنجليز ، وتحفُّظهِم المنافق!
لا أدري كيف أصشفُ هذا اللقاء بين الشعراء المدعوّين ؟
بعد اللقاء الإلزامي عند استعلامات الفندق في التسجيل ، لم أعُدْ أرى أحداً . يا إلهي ... أين ذهبوا؟ هي جزيرةٌ صغيرةٌ. وقد جئنا من أطراف العالَم ، كي نلتقي ...
والله ، لا ادري !
على أيّ حالٍ ...
غداً ، أي في التاسع والعشرين من تمّوز ، ساشارك في الأمسية .
لكننا ، حتى الآن ، لم نرَ المكان الذي سنُلقي فيه قنابلَنا ...
أهو عملٌ ســرّيٌّ ؟
أعتقدُ أنّ عليّ أن أقول شيئاً ...
لكنْ لِــمَــن؟
ظهيرةَ هذا اليوم ، شعرتُ بالجوع.
لا أدري إنْ كانت هناك ترتيباتٌ حول الأمر .
قلتُ : أذهبُ كما اعتدْتُ ...
سرتُ بمحاذاة الشاطيء والمطاعم المهتمّة بالسائحين .
أخيراً وصلتُ إلى مقهى ليس فيه أحدٌ .\قلت : هذا مكاني !
سيدةٌ وابنتها تديران المكان : ماريكا ويُوانا .
طلبتُ جبن غريّير وجبناً آخر محلّيّاً . طلبت زجاجة نصف لتنر الرتسينا ، النبيذ الإغريقيّ الأبيض الخفيف .
طلبتُ خبزاً .
كان أشهى طعامٍ لي منذ زمنٍ .
*
يبدو لي أن الأمور تأخذُ منحىً آخر.
جاء مَن يخبرُني أننا سنجتمع للتداول في شؤوننا . كنتُ استمتع بكأس أوزو مثلّج . قلتُ : لا بأس ! الاجتماعُ على الخير خيرٌ من كاس أوزو حتى لو كان مثلّجاً .
وقد انعقدَ الشملُ .
وتوضّحتْ أمورٌ .
والآن نحن في مقر المؤسسة الثقافية للجزيرة.
بيانو
ونساءٌ جميلاتٌ قلَّ ان يراهنّ المرءُ في بلاد الإغريق ، وبخاصّة المغاليات في الشُّقرة أو التشقير .
الموسيقى العذبة من البيانو تخفُتُ .
نحن سنسمعُ شِعراً !ً
*
يبدو أننا لن نسمع شعراً الآن . كلمةٌ طويلة من رجلٍ متحمِّسٍ لأن تكون هذه الجزيرة عاصمةً ثقافيّةً لبحر إيجة . ثم جاء القسّيسُ اليونانيّ التقليدي ، ذي الثياب السود والشَعرِ الأسودِ . الشّعرُ لم يبدأ بَعْدُ . على الشِّعر أن ينتظر نهايةَ المكتبيين.
بدأ الشِّعرُ على التاسعة والنصف .
ثلاثة شعراء وشاعرة واحدةٌ .
شاعران يونانيّان و شاعرٌ من كرواتيا كنتُ تحدثت إليه قبل الأمسية .
الشاعرة أظنُّها إغريقيّةً .لم تكن شاعرةً . كانت قاصّةً . ألقتْ بياناً سياسيّاً من مقدمة آخر روايةٍ لها.
الشاعر الأول سبعينيَ عُمراً.إلقاؤه ممتازٌ.قصيدته الأولى كانت عن ماشٍ على الحبل . الكرواتيّ الفتيّ كان ناجحاً
في استمالة الحضور ، بقصائده العاطفيّة القصيرة.
وكان هناك شاعرٌ أميركيّ كثيف اللحية ألقى قصائد جيدة تهتمّ بالطبيعة. القصائد أُلقِيَتْ باللغة الإنجليزية.
ليس بمقدوري ، متابعة الشعراء الآخرين ، بسبب حاجـز اللغة ، لأنّ الترجمة لم تكن متوافرةً ، كما يلزمُ . قد يستطيع الناسُ التغلّبَ على هذه المعضلة في الدورات القادمة لمهرجانٍ يريدون له أن يكون عالميّا .
*
صباح اليوم ، التاسع والعشرين من تمّوز ، أردتُ الذهابَ إلى المرفأ ، لأشتري بطاقة ذاكرةٍ لآلة تصويري الجديدة الصغيرة ، أوليمبوس : كأنها يونانيّة النسَب!
قالت لي موظفة الاستعلامات إن حافلة الفندق تتأخّر ، لكن هناك حافلةً عامّةص تنقل الناس إلى المرفأ . الموقف على مبعدة أمتار. الأجرة أقل من 2 يورو.
وهذا ما حدث.
في المرفأ أسألُ : فوتوغرافيا !
يشيرون عليّ بأن أذهب يميناً ثم يساراً فيميناً ... إلخ.
بلغتُ المكان . اشتريت بطاقة الذاكرة بسِعر أكثرَ قليلاً من سِعر لندن . لا بأس . صاحب المحل يسأل . أقول له : من العراق . يقول : لا أفقَ ...
الحربُ دمّرتْ كلَّ شــيء !
*
في الظُّهرِ أذهب إلى مقهى- مطعم لا يرتاده السائحون . فعلتُ هذه اليومَ أيضاً . طلبت معكرونة نابوليتان وزجاجة نبيذ رتسينا الأبيض الخفيف . رأيت الشاعر الإيراني فريدون يغذّ خطاه . الشمس ساخنةٌ . والوقت ظُهرٌ . ناديتُه من مكاني : فريدون ، تعال هنا ! إلى أين أنت ذاهبٌ تحت شمس الهاجرةِ ؟
قال : إلى معبد بوسيدون ( إله البحر الإغريقيّ ) عنه قريبٌ . قلت له : نتغدّى ، ثم نذهب . دعوتُه إلى ما طلبت . طلبنا زجاجةً ثانيةً . قلت له : فريدون ... ننتهي من الزجاجةِ الثانية لنجد أن بوسيدون جاء إلينا ، بدلاً من أن نذهب إليه !
*
هذا المساء ستكون القراءة في قرية فولاكس بأعلى الجبل.
للمرة الأولى ألتقي جورج بلاناس مترجِمي إلى اليونانية . رجلٌ رائعٌ . زوجته لطيفةٌ جداً . لهما بنتٌ وولدٌ. متزوجان منذ أربعة عشر عاماً .
قرأتُ " ليل الحمرا " ، جورج بلاناس قرأ " أميركا أميركا " كاملةً .
قرأتُ أيضاً قصيدة كافافي الشهيرة " إيثاكا " باللغة العربية ، ومن ترجمتي .
صفّقَ الحضورُ طويلاً حين أريتُهم كتاب كافافي " وداعاً للإسكندريّة التي تفقدُها " .
قلت لهم : إنها الطبعة الخامسة :
بغداد - بيروت - ثلاث طبعات في دمشق.
اليونانيون يقدِّسون شعراءهم.
وهم مُحِقّون تماماً : شعراء اليونان من أفضل شعراء العالَم .
*
في المطعم ، بعد الأمسية التي بدأتْ متأخرةً على طريقة القوم هنا ، سهرنا حتى مطلع الفجر !
فولاكس ، قريةٌ شيّدها الخيال.
رافينا 31.07.2011