طلاسم ... وأطياف

2021-04-21

ولدي العزيز

بعد التحية

زاد شوقنا اليك وبدانا نعد الأيام كي نراك، وبما انك انهيت دراستك منذ سنوات فارجو يا ولدي ان تعود الى أهلك وبلدك اننا بحاجة اليك...
            والدك الذي ينتظر مجيئك بفارغ الصبر .

هكذا .. هكذا كانت رسالة والدي، رسالة مقتضبة، غامضة، خالية من التفاصيل، لم أستشف بين حروفها نيته ..

هل أراد بها أن يوقض حنيني ويضمن عودتي مسرعاً ؟ ربما، وربما هنالك ما هو أكبر ..


* * *

طويت الرسالة، على عجل، بدون وعي، شارد الذهن مشتته .. حاولت أن أجمع أفكاري وقدرتي على التركيز، لم تسعفني محاولاتي، ووجدتني أمام لغز محيّر .. والدي يسألني العودة وينتظر مجيئي .. ولوقت قريب جداً، كان يؤكد عليَّ ان لا أعود مهما حصل، اذاً استجد شئ يستدعي تواجدي، شئ .. .. لاسامح الله .. دفعت الفكرة بكل ما أُتيت من قوة .. لأستعيد توازني ... وصرت أُقنع نفسي بأن لا شئ يستدعي العجلة ...


* * *
..

أربعة عشر عام انطوت وأنا ابذل جهداً كي أُوقف نزيف حنيني إلى بغداد، أُشيد عالماً أحتمي به كي أتماسك، متراساً أصد به حنيني وشوقي إليها، حنيني إلى شوارعها، أزقتها المعبأة بمفردات الطفولة، وشقاوة الصبا .. عالماً أُحاول أن ألتصق به، ألتحم به لأنسى انني اتنزعت منها قسراً كرضيع ينتزع من حضن امه قبل ان يرتوي .. لكن مجرد التفكير بالعودة يرعبني ويجعلني ارتعد ..


هل الخوف أقوى من الحب ؟ هل الخوف أقوى من الشوق والحنين ؟ ؟

لم تنقطع الأخبار والقصص، لكنها تصلني مغلفة بالدمار، مشحونة بالموت الروتيني، ملغومة بالألم والرعب .. فلان اُعدم، فلان مات بحادث مدبر، فلان عُذب ولفظ أنفاسه اثناء التعذيب ، فلان ... ... بينهم الكثير ممن صادقتهم، ممن زاملتهم، ممن لعبت معهم، ممن لي معهم أحلى الذكريات .. ضحايا قُدموا قرباناً لأحكام قرقوشية .. لا يعرف احد كيف يُلَبّس تهمة، اين وكيف يموت حتى وهو يبذل أقصى جهد ليكون فوق الشبهات . . كل شخص ممكن ان يكون متهم، ولكن مستحيل ان يثبت براءته .. كل يوم عشرات الضحايا تقتاد الى مسلخ سلطة اصبحت - رغم ما يبدو ظاهراً من قوتها - تخاف من النملة إذا توقفت أثناء مسيرها فتُلَّبس تهمة التآمر على كرسي الرئيس .. ..

مع كل خبر يصلني أتساءل كالخارج من بين أنياب وحش جائع، لو ان أهلي لم يستعجلوا سفري، هل كان مقدَّراً لي ان أكون واحداً من هؤلاء الفلانين ..وعندما اصل الى هذه المرحلة من التفكير يقشعر بدني، وأرتجف، أرتجف، أرتجف وتصطك أسناني حتى أكاد أسمع صريرها .. .


- أنا لا أخاف الموت بقدر ما أخاف ما يسبقه ..

شيئاً في داخلي ينتفض ويصرخ

- لا .. لا، كيف لي ان أتحمل لسع الكهرباء، شوي جسدي بالنار، الخوازيق وال ..

أنكمش، وأنكمش، وأغوص داخل جلدي وأصبح كالحلزون .. وعندما أدرك انني لا زلت بعيداً حيث بعثني والدي

لحمايتي، اشعر بتعب شديد، ممزوجاً بفرح بلا حدود، كالعائد من معركة طاحنة منتصراً..

* * *

انني باسم ابن زكي التاجر، تاجر السجاد المعروف والذي ورث العمل عن ابيه ، وأنا ابنه الأول، أول من أدخل

الفرحة الغامرة للعائلة التي كانت تنتظر المعجزة بفارغ صبر .. حملت بي امي بعد انتظار ثلاث سنين، وثلاث سنين  في انتظار طفل في ذلك الوقت تعني الكثير، أطباء وعلاجات من كل الأنواع .. أدعية، نذور، تعاويذ، زيارات الأضرحة، قارئات الفنجان، و ..

كانت جدتي مسكونة بالقلق، ومع ذلك تختصر الطريق أحياناً أو تحاول اقناع نفسها فتستسلم للقدر لتقول :

- الّي مكتوب يصير ..

يقال :

عندما حملت بي امي شيعت جدتي الخبر كالبرق، للأقرباء، للجيران، للأصدقاء، للمتسولين، بائعة اللبن، وبائعي الخضار، زوجة البقال، زوجة اللحام، وخادمة الجيران وقريباتها وجيرانها .. . .. . وبذا وفرت على الجميع نصائحهم ووصفاتهم التي لم يعد لهم حديث معها غيرها ..

حبل امي أعادلأبي ثقته بنفسه، وجعله ديكاً لا يشق له غبار، وبذا ازداد اهتمامه وعنايته بها على غير عادته ..

الحدث، أزال الكثير من التوتر وآثار الحروب غير المعلنة، وأدخل طقوس ومباهج لم يعرفها بيتنا من قبل ... كلما مرَّ شهر ازداد تكور بطن امي الذي تتعمد الا تخفيه، وازدادت التحضيرات والمشتريات وبانت اللهفة والترقب ...


عندما زف خبر ولادتي لأبي، حينها كان في متجره، يقال انه عاد الى المنزل مسرعاً مرتبكاً منفعلاً ، دون اي

مقدمات، دون ان ينطق اي حرف، حملني كأنه يحمل العالم بين يديه، كان وجهه طافحاً بالبشر كل عضلة فيه كانت تعلن عن فرح عجز عن ترجمته بكلمات، طبع قبلة خفيفة على جبهتي، وقال باسماً منشرحاً : نسميه باسم ..

وبين أحاديثهم وهم يسترجعون ذكريات تلك الأيام يقولون ان يوم ولادتي هو اليوم الوحيد الذي اقفل فيه والدي

متجره، أراد ان يكتب على بابه مقفل لأني رزفت بولد، لكنه عدل عن رأيه وقال :

- عيب محد مسويها، ثم مضى مسرعاً ..

عندما عاد الى عمله في اليوم التالي، عاد انساناً آخر، عاد زكي ابو باسم، وزع ابو باسم النقودعلى العمال والمتسولين والمحتاجين بسخاء لم يعرفه من قبل، وأشرق وجهه بابتسامة على غير عادته، لأن عمله - كما يعتقد - يتطلب الصرامة والوجه العابس، كي لا يُستَغل، وبذا فأنه غالباً ما يكرر بطريقة يؤكد فيها على كل حرف :

-العمال ماينّطون عين ..


منذ ذلك اليوم بدأ والدي يرسم خطوط مستقبلي، كثيراً ما يشرد ويحدث نفسه بصوت مسموع :

- الدراسة أولاً، نعم بهالوقت الناس لا تحترم الاّ أصحاب الشهادات

- إي، نعم، كلية التجارة أحسن اختيار، ابن التاجر لازم يدرس تجارة .. ويضيف عن قناعة ورضا :

- لما يتخرج سيدير تجارتي ويوسعها بعلمه ومعرفته ..

هكذا كان يرسم عالمي خطوة خطوة، ويحسب ويتحسب لكل شئ، لم يكن مشواره سهلاً، كان يتطلب منه الكثير، وكي يصل بي الى ما يريد، عليه ان يكون منتبهاً، حذراً ... طريقه طويل، طويل، ولا يخلو من مطبات، لذا كان لايغفل أدق الأمور ويقول :

- أولاد هالأيام يخوفون ...

كم كان مرعوباً، خائفاً، لكن خوفه يتبخر عندما يعلم بتفوقي في دراستي، نجاحي بتفوق فقط ما يجعل خوفه يتبخر

ويملأه زهواً ومباهاة، فكان يسأل الآخرين عن أولادهم ليس لأنه حقاً كان يريد أن يعرف، لكن بنية أن يسألوه عن باسم، وعندما يفعلون يجيبهم اجابة مخلوطة بابتسامة وشعور عميق بالمباهات فيقول :

- والله باسم جاب أعلى نقطة بالفصل ...

يتباها، يمتلئ زهواً، يرفع رأسه، يفيض فخراً، ويعمر قلبه فرحاً ... فأعلى علامة بالفصل تعني علامة نجاحه هو وتأكيد على حسن تربيته ... لكن مع ذلك لم يستطع تفوقي ان يلغي مخاوفه، فإنه يستدرك قائلاً مع نفسه :

- لا زال المشوار طويل ..


لم اخيّب ظنه واجتزت امتحان البكلوريا بنجاح متميز، شعور والدي بالفرح جعل له جناحان وحلّق حتى السماء، لكن فرحه يأتي دائماً كأنه منقوص، او ان حرصه الزائد يقطع فرحه ويباغته بأفكار لا تجعله يسترسل او يستسلم لفرح طويل، دائماً يركب والدي ارتياب يعكر موجة البهجة العارمة: بهجة انتصار المقاتل بعد مشقة الأصرار، فتفوقي اوقعه في حيرة من نوع عجيب، احياناً يبدو والدي لفرط حرصه مجنوناً ... معدلي يؤهلني لدخول كلية الطب ... وأن أصبح طبيب ( شي موقليل ) وهو الذي يعشق المباهاة، ويعشق التميز على الأخرين ... لكن حيرته هي، اذا أصبحت طبيب من يمسك تجارته ؟؟ ..

* * *

خلاصه من حيرته جاءه بسرعة غير متوقعة، جاءه بخبر، خبر نزل عليه كالصاعقة، كالزلزال، كالبركان، لم يحسب للكوارث، ولم يتحسب، لأنه كان يعتقد ان باستقامته وحذره يكون بعيداً عن النار المستعرة والتي التهمت الكثيرين ..

وهوشارد الذهن، مشتت الفكر قال مخاطباً نفسه بذهول :

- هل وجِدَتْ الأحلام كي تضيع ؟ ...

خبر اعتقال ثلاثة من أصدقائي المقربين جداً، حسم الموقف، ثلاثة من رفاق الدراسة والجيرة والمعايشة والمحبة التي كبرت معنا، كنا متشابهين، كانوا كما انا ليس لهم في شئ اكثر من سباقهم في التفوق الدراسي، اعتقال الأول كان المفاجأة الكبرى، اخذت ممن يعرفهم أسابيع من التساؤل عن التهمة التي اعتقل من أجلها، يضربون أخماس بأسداس لكنهم لم يتوصلوا الى نتيجة، وأُلجموا باعتقال الصديق الثاني، ثم الثالث .. ونحن أربعة أصدقاء لم نفترق عن بعض لكل هذه السنين الطوال ...

ولذا ودون سابق انذار، القى والدي بقراره :

- لازم يسافر بأسرع وقت ...

قالها همساً، رمى جملته في وجوهنا ونحن مجتمعون نتسامر ونتجاذب أطراف الأحاديث والضحك ونتبادل الشحن ملتفين حول مدفأة علاء الدين بلهبها الأزرق في ليلة شتوية قارصة، الصاعقة الحقيقية كانت وقع القرار على امي وأخواتي وجدتي ...

تجمدت الكلمات في أفواه أخواتي .. بهتت أمي، وفجأة شَعَرَتْ ان العالم توقف عن الدوران، حاولت امي

الإحتجاج، فقطع عليها والدي اي اعتراض، وقال بوشوشة خافتة :


- اي كلمة من أصدقائه تجيب أجله .

اجابته امي مفجوعة :

- شنو سوّه ؟؟؟

اجابها والدي بنفس اللوعة :

- أصدقائه أيضاً لم يفعلوا شئ ... التهم تأتي حتى لو يضع الشخص الف حصانة، اصبحنا لا نعرف ما هو صح وما هو خطأ، كل يوم اوكل ساعة تتغير المعادلة، اشعر أحياناً بأنهم يختارون ضحاياهم من المثقفين او من المتميزين ثأراً لجهلهم ..

لم يبق للجميع الاّ الإستسلام، لأنهم يدركون جيداً معنى ما يقول، والمعادلة محسومة، وبسرعة غير متوقعة اقتنعت والدتي وقالت كأنها تقنع نفسها :

- بعيد أحسن من ميت ...

تمتمت جدتي بكلمات غير مفهومة وصمتت ...


هكذا سافرت الى اسبانيا، معارف والدي في اسبانيا هيأوا كل شئ، وكل شئ ترتب ييضعة أيام، وأنا غارق في لجة من الحزن والأسى، لا أملك سوى الأستسلام ، وسؤال يدور في رأسي ، يعذبني، هل تخلى عني وطني متجاوزاً عشقي له ؟؟ هل فرط بي واستهان بحبي له؟؟ ...


* * *

وضعت الرسالة، اللغز في جيب قميصي وعدت مسرعاً لأختلي بنفسي كمن يهرب من شعورٍ مفاجئٍ بالإغتراب...


دخلت غرفتي بنفس العجالة والتلقائية التي قطعت بها الطريق، فراشي لا زال مبعثراً، غارقاً في فوضى ليلتي وكوابيسها ... شبابيك غرفتي موصدة، أسدَلتُ ستائرَها، فعمت العتمة أرجاء المكان، شعرت انني وحيداً، كشعوري بالوحدة عندما وَطَأتْ رجلي هذه المدينة لأول مرة، رميت جثتي المتعبة فوق السرير، وكشريط سينمائي ترتبت في مخيلتي المرتبكة كل الوجوه احيائها وأمواتها، اعترتني رغبة بالبكاء بذلت جهداً لمقاومتها، لا أدري لماذا تسمرت صورة أبي أمامي، لماذا توقف الفلم عند هذه اللقطة، وكالطفل عند اكتشافه غياب امه اجهشت بالبكاء ، وغفوت ...

 

* * *


طائر أبيض كالوفر في ليلة الميلاد، وجدت نفسي محلقاً بعيداً في يوم صحو جميل، نخيل باسق كثيف، يرسم لوحات رائعة أعطت للمكان حضوراً خارقاً، نهران متناغمان كسنفونية راقية ممتدان كما الأزل، رائحة من الدفلى، وورود الجوري، وطلع النخيل ... هبطت قليلاً، تسارع وجيب قلبي، وأصبح صوت دقاته ينشر غلالة تغطي على أصوات المفردات الضاجة بالحياة ... سطوح منازل تتناثر فوقها أسرة حديدية وأفرشة بيضاء وأخرى ملونة بالوان الورود وناس مستغرقين في احلامِهمْ تاركين متاعبهم في استراحة مؤقتة ... قشعريرة كمس الكهرباء سرت في كامل جسمي فسحبت نفساً له طعم نسمات ليل بغداد المضمخة برائحة التراب المرشوش ... والدي مسجى على فراشه مغبر الوجه شديد الهزال والنحول أغطية بيضاء تلتصق حول جسمه، وجه نحوي نظرة عاتبة ومد لي يداً واهنة معروقة، باغتتني عاطفة وشوق يصعب احتماله، حاولت ان أقترب، ان أمسك يده ان اقبلها لم أستطع، شئ ما يدفعني بعيداً بدأت استغيث أصرخ فيضيع صوتي ويتلاشى في الفضاء ...

* * *

صحوت من نومي غارقاً في لجة من العرق والوهن ... تذكرت انني نمت نوماً مضطرباً متقطعاً ... الشبابيك مغلقة، الجو خانق .. شعرت بلزوجة وجفاف في الحلق .. يبدو ان حرارة الغرفة جعلتني احلق بعيداً الى نسمات السطوح البغدادية العذبة ...

* * *


شعور بالوحدة مشبعاً بالحزن، وطعم مرارة قاسٍ احسسته عالقاً في فمي، عدم ارتياح طغى على مشاعري وانا في الطائرة المتوجهة الى بغداد، لا أعرف ماذا ينتظرني، شئ ما يجعلني أشعر بعدم الإطمئنان، كالمقدم على مغامرة لا يعرف عواقبها ... كالمسيّر للمجهول مغمض العينين ... كم يرعبني وقع كلمة مجهول، صداها يجعلني استحضر كل الحالات الصعبة التي وصلتني اخبارها وأنا في غربتي، كنت أرتجف وأنا اتبادل المواقع مع ضحاياها في مخيلتي، وكثيراً ما تترجم الى كوابيس تختزل نومي، وتحول علاقتي معه الى معركة انا الخاسر فيها على الدوام ...

* * *

لقائي مع الأهل هو لقاء بعد غربة اربعة عشر عام .. اشياء كثيرة تبدلت وبدت لي غريبة، متنافرة ... وهذا والدي مسجى على فراشه، وجه شاحب نحيل، خصلات فضية متناثرة على جبين متغضن، ونظرة منكسرة تبعث الإحساس بفقدان الأمل ... ركعت عند قدميه، رهبة وخشوع جعلاني كمؤمن يستجدي رضا الآلهه ... حاولت أن اتجالد واتصرف بما يليق بالرجال، لكن فجاة وجدت نفسي طفلاً يغرق في نحيب لا ينقطع ..

* * *

لقد تواطأت الخيبة والحزن على روحي فزادتها حيرةً ووحشة، كنت اعزي نفسي بالأمل، كالغريق يتمسك بقشة الإنقاذ ... رغم كل المؤشرات على سوء حالة والدي الصحية كان عندي أمل بالشفاء، كنت متمسك بفكرة ان والدي سيبقى، كنت مستميتاً في تصديق فكرة انه سيعيش طويلاً لإحساسي بأنني لم أشبع منه وأتمنى أربعة عشر سنة اخرى الى جانبه لأعوض ما فاتني ... لكن انتهى كل شئ، وكأنه تم في لمح البصر انسحب والدي من الحياة وتركني في دوامة، وها أنا أسير مع المشيعين في جنازته ، وفي محاولة للتماسك كنت اذهب بافكاري بعيداً وأسترجع كل ما مر بي، وأستبطن كل ما ينتشلني من حالتي، لأبدو رجلاً امام رثاء العيون التي ترقبني ..

ولكي أخرج من حالة الموت وثقل الحداد بدات شيئاً فشئاً استفيق من صدمتي وأقترب من واقعي ...

وبما انني أكبر الأبناء فإنني الوحيد المرشح لإدارة متجر والدي .. ياااااااه، انها معادلة صعبة، وليس من السهل الوصول الى القرار. ..

* * *

متجر والدي ليس بالمتجر الكبير جداً، لكنه يكاد يكون مكتضاً بالسجاد، سجاد ايراني صناعة يدوية، وقفت امام تلك البضاعة بوجل من يدخل ضريحاً لوليٍ من الأولياء، انها تعني بالنسبة لي الكثير، الكثير جداً .. مرّرت يدي على بعضها، خيوط حريرية، ألوان شرقية ساطعة، ارتاحت يدي لتلك الشعيرات الناعمة، وجدت شيئاً مني يسكن بين لحمتها وسداها، اقواس واشكال، ورود وزخارف تحكي عن ايام طفولتي وصبايا، تحكي اسراري وحماقاتي، فرحي وازَماتي، نجاحاتي وعثراتي، تسكن ثناياها مفردات ذاكرة معبئة باحداث كانت بالغة الأهمية يوماً ما ...

لم يتطلب تعودي على العمل وقتاً طويلاً، فسرعان ما استعدت خبرتي التي كانت حين كنت اساعد والدي ..

 

* * *


كان يوماً من أيام بغداد الحارة الثقيلة، السوق هادئ او يكاد ان يكون راكد، ويكاد يخلو من المارة، كنت قابعاً وراء طاولة المكتب في أقصى المتجر، في مواجهة الباب ليتسنى لي رؤية الداخلين اليه، كنت غارقاً في مراجعة أوراق البيع والشراء عندما اقتحم الباب -كالصاعقة أو كالإعصار- ثلاثة أشخاص رغم ان ليس ما يدل في ملبسهم على انهم من الشرطة، إلاّ ان همجية اقتحامهم باب المتجر تدل على انهم كذلك، وانا في وضعية الذهول والإرتباك فوتوا عليَ فرصة السؤال وقالوا بنفس طريقة اقتحامهم :

- اننا شرطة امنية، مطلوب إلقاء القبض عليك ..

لا أستطيع وصف الحالة التي آليت اليها انها ليست ذهول، ليست ارتباك، ليست رعب، ليست حيرة، ليست ... انها شئ يحمل كل ذلك ويزيد، كما يحدث في الكوابيس التي لا تتواءم مع اي منطق ..

- بصوت عانيت كي يكون مسموعاً حاولت ان أسألهم لماذا لم اسمع سوى كلمتين بصوت كطعن السكاكين

-بعدين تعرف .....

اقتادوني، اضطررت الى مرافقتهم بكل طاعة، لأني لا أملك غير ذلك .. دفعوني داخل سيارة كانت واقفة على مقربة، اجلسوني متوسطاً اثنين منهم وانطلقت السيارة ..

 كل شئ مر بسرعة غير متوقعة، كانوا صامتين وفي رأسي تدور الإحتمالات .. بعد مسافة عصبوا عيني بمنديل، فضاعت عليّ َفرصة التعرف على الطريق، ومضوا بي الى المجهول ...

توقفت السيارة، هذا يعني اننا وصلنا، اخرجوني من السيارة ودفعوني بعد ان فتحوا باب له صرير يشق الآذان،

وسقطت على الأرض، رفعوا المنديل عن عيني وتركوني وحيداً ...

كان كل ذلك يجري بصمت .. تلفتُ حولي، كانت غرفة واسعة جداً ولم يكن فيها سوى طاولة صغيرة وكرسي ..

وانا في حيرتي ومحاولاتي للتركيز على فكرة ما، اقتحم الغرفة ثلاثة اشخاص جلس احدهم على الكرسي بتباطئ واسترخاء .. ..  بعد صمت طويل وجه اليَ حديثَه باحتقار فقال :


- اسمع .. احنا نعرف عنك كل شي، اكثر مما تتصور ... فمو من صالحك تكذب ..

وبدأ يسالني، اسئلة عادية، اسمك عمرك مكان سكنك، اسئلة كثيرة اخرى، لم اعد اتذكرها، لكنني اذكر السؤال الأخير لأنه على ما اعتقد هو اهم الأسئلة او انه بيت القصيد، سالني :

- بمن تلتقي ؟

عددت له عائلتي، اقربائي أصدقائي، العاملين معي، الجيران، كنت احاول ان لا انسى احد، لا أدري ما الذي جعله يزمجر قائلاً:

- ولك مو كتلك لا تكذب ؟؟؟؟؟؟؟

وجاك تيلر شنو علاقتك بيه .....؟

قلت بدهشة واستغراب :

جاك تتتيلر ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لم أسمع بهذا الأسم من قبل !!!!!!!

على صوته أكثر، ولم يعد يشبه الأصوات البشرية، وقال لي :

- تسوي نفسك غشيم ؟

انت متهم بالتجسس لصالح انكلترا ...

زخم من الإستفسارات تجمّع في راسي، على اي شئ اعتمدوا في حكمهم هذا ؟؟؟ لماذا توجه لي مثل هذه التهمة ؟؟ ما علافتي بإنكلترا ؟؟ مئات اللماذا هجمت دفعة واحدة، لكن قبل ان افتح فمي انهال عليَّ الضرب والركل من كل الأنواع من شخص، من شخصين، ثلاثة ... ... ... وبعدها فقدت التمييز ... كم عدد الأشخاص، اي نوع من الضرب، تنوع الأشخاص وتنوع الضرب، ابتدأ بالأرجل والأيادي، ثم بالسياط، ألمها مختلف ألمها اقوى ومصحوب بحرقة، بالعصي الخشبية، ثم بالعصي الحديدية، تتبعها الكهربائية وهكذا بتصاعد حتى فقدت التمييز ...

                                ****

ها أنا استطيع الكتابة ... لا أعرف كم مضى من الوقت، يوم، اسبوع، شهر ... لا أعرف سوى ان أصابعي يمكنها ان تمسك بالقلم، كأنها تحمل اثقالاً فوق طاقتها ...

جاك تيلر .. وانا جالس في هذا القبو الرطب المظلم الموحش افتش بين تلافيف الذاكرة عن شئ اسمه جاك تيلر .. وآه كم تمنيت ان اعثر عليه ويحسم امري .. انهم يعذبوني ويطيلون، ضناً منهم انني صامد ابيع بطولات ولا اريد الإعتراف، لا يصدقون انني برئ وليس لدي ما أقول ..

جولة تعذيبية جديدة جاءت بعد سلسلة من الجولات، هل ما زالت لديهم طرق تعذيب اخرى يستمتعون برد فعلي لها ؟؟؟

اقتادوني الى غرفة اعتقد انها هائلة الإتساع، لأنني وجدت صعوبة في قطع المسافة بين بابها والمكتب الذي يجلس عليه شخص ضخم الجثة بملابس رسمية، وبوقار مصطنع أشار لهم ان يجلسوني، أجلسوني .. لا صوت أسمعه وانا في جلستي سوى الصمت، طال الصمت، ولاشئ سوى الصمت، وانا اترقب واترقب، واسأل نفسي :

- باي شئ ستمتاز هذه الجولة ؟


لأول مرة أعرف بان الصمت أداة تعذيب تفوق الوصف في قوتها، كنت انتظر حدوث شئ، كان يخترق بنظره كل

خلية في جسدي .. ثم بإشارة من يده انصرف الجميع، بقي صامتاً يخترقني، تمنيت ان يقوم باي فعل، يصفعني

يركلني، اي شئ .. لكنه كان مصراً على الصمت ..

بدأت أتنفس بعمق كي أهدئ انفاسي المتلاحقة، او ان أهدئ حالة الألم التي تحاصرني، وقت طويل مضى خلته دهراً لثقله .. واخيراً بإيقاع بطئ فتح درج مكتبه واخرج بطاقة بيضاء بدت متناهية الصغر في كفه الضخم، وبارتخاء شديد سألني :

- هل تعرف هذه البطاقة ؟

ثبتُ نظري عليها وأجبت على عجل :

- نعم ..

قلتها وكأنها القشة التي ستنقذني .. أجابني بنفس الإرتخاء :

- أتعرف .. ؟ بأننا وجدنا هذه البطاقة مع الشخص الذي تنكر معرفته ؟؟؟؟؟

كانني غصت في اعماق بئرٍ بلا قرار .. وأخيراً بدأت تترتب الأحداث، وانطلقت بالحديث، لا أدري من اين جاءتني هذه القدرة على الحديث ؟ كجثة ميتة وبدا سريان الدم في عروقها فجاة، فقلت :

سيدي .. ثم سحبت نفساً عميقاً ..

- سيدي انكم تعرفون بأني تاجر سجاد، وهذه البطاقة اعطيها للإعلان عن بضاعتي وهذا التقليد موجود في كل العالم وليس بالضرورة ان تعرف الشخص كي تعطيه بطاقتك، انها لكل من مر على المتجر، وأحياناً لمن لم يكن قد جاء للمتجر ابداً وانما حصل عليها من زبون ٍما، وجاك الذي تسالوني عنه والذي لم اكن اعرف اسمه من قبل، يظهر انه احد المارين على متجري او معرفة لأحد المارين ..


* * *


عرفت بأنه قد مر شهراً كاملاً على ذلك اللقاء، وعلمت بأن حفلة التعذيب انتهت بعد ان أغمي عليّ ونقلت الى المستشفى، وبقيت في المستشفى فاقد الوعي لوقت لا أعرف مداه .. بعد ان عاد لي الوعي رايت حركة غير عادية حول فراشي، فحوصات كل بضعة دقائق، أدوية من كل الأشكال، جهاز ضغط وأكياس مغذي، ممرضات وأطباء يتهامسون ويتناوبون، وشرطيان لا يبرحان المكان، وبعد وقت ايضاً لا أعرف مداه أعادوني الى الزنزانة بنقالة، لم اكن أعرف بأن هنالك كسراً في ساقي الأيسر يعيقني عن المشي، حتى حاولت الذهاب الى دورة المياه ...

 


* * *


تنقلت من زنزانة الى أخرى، صغيرة، كبيرة مزدحمة فارغة، نتنة، أشد نتانة، رطبة أشد رطوبة ... ما ابتليت به ابتلى به الوف غيري التقيتهم عبر تنقلاتي الزنزانية، الكل يحمل بصمات التعذيب على جسده، الكل يعاني من آلام يصعب تحملها والكل متمسك بالحياة ...

حين يصمد السجين أمام جلاديه فإنه يحلم باشياء قد تبدو لغير المسجون تافهة لكن هي التي تمد السجين بجرعة حب البقاء ...


* * *


عامان ونصف مرت، مررتُ خلالها بالوان التعذيب التي تخطر ولا تخطر على البال، وها انا ذا في الطائرة

المتوجهة الى غرناطة، هل لا زال عندي شئ من القوة يعينني على التشبث بالامل ؟ لا زال أثر قبضة والدي حاراً على يدي أحاول بها ان أتخلص من وهني ... احاول ان لا أكون انساناً آخر .. .

أخيراً ثبت اني برئ !! لا أدري من أين جاءهم هذا اليقين ربما حصلوا على دليلٍ ما، او ربما  المبلغ الذي دفعته والدتي والذي حصلت عليه من بيع المتجر والبيت استطاع ان يثبت براءتي ... ... ... !!

من خلال نافذة الطائرة التي بدأت بالإرتفاع التدريجي أخذت انظر الى بغداد وهي تبتعد، انظر الى دجلة والفرات

حيث امتدا كخطين ازليين .. خليط من المشاعر احتدم في اعماقي ... اسئلة كثيرة ازدحمت في راسي لم اجد لها  جواب ...

لا اريد ان اتذكر تفاصيل تلك الكوارث ...عليَّ ان اضعها في طي النسيان، الم يقولوا ان النسيان للإنسان نعمة ؟ ربما سأنسى .. .. الزمن كفيل ان ينسيك اي شئ، واذا ساعدني الزمن ان أنسى كل ما مر بي من أهوال ومصاعب، لكن لا اعتقد انه يستطيع ان ينسيني نظرتي الى بغداد عبر نافذة الطائرة، انني سأذكرها ما حييت، تلك النظرة التي كانت مضمخة بالعتاب ....

 

عالية كريم

2000م 

 

 

 

 

 

 

عالية كريم

رئيسة تحرير "معكم"

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved