بمناسبة اليوم العالمي للقصة القصيرة الذي يصادف في 14 شباط
من يتابع الحركة الأدبية عربيا وفلسطينيا سيلاحظ خفوت حضور القصة القصيرة في المشهد الثقافي بشكل عام، ولهذا الخفوت عدة أسباب، أولها رحيل كتّابها الكبار الذين أسسوا لهذا الجنس الأدبي ومن جاء بعدهم من الجيل الثاني الذين أرسوا قواعد القصة القصيرة الفنية، ما دفع النقاد للحديث عن هذا الجنس الأدبي وتأطيره ضمن قراءآت نقدية تطبيقية أو ضمن مناهج نقدية عامة كالمنهج الواقعي بشقيه (الواقعية النقدية والواقعية الإشتراكية) أو الرمزي أو غيرها من المناهج، وبرحيل هؤلاء المبدعين من كتاب القصة القصيرة خفت النقد الذي يتناول الأعمال القصصية، لأن القصة القصيرة غدت هامشية، وكتبها كتابٌ أقل حضورا من الجيلين السابقين، ولم يلتفت لهم النقد بما يكفي، فعاش هذا الجنس الأدبي ظلا وبقي يكتب وينشر على استحياء .
عدا أن كتّاب القصة القصيرة الأوائل (الجيل الأول والثاني) شكّلوا حالة ثقافية عامة مرتبطة بقضايا وطنية وإنسانية أمثال يحيى حقي في مصر، وغسان كنفاني في فلسطين، ومحمود سيف الدين الإيراني في الأردن، وزكريا تامر في سوريا على سبيل المثال، وربما وجد الدارس اسما أو اسمين في كل دولة من الدول العربية .
ويعود السبب الثاني، ربما، إلى هجرة كتّاب القصة القصيرة من القصة إلى الرواية، فكل كتاب القصة القصيرة فيما بعد الجيل المؤسس والجيل الذي يليه، تقريبا، وبعض كتاب الجيل الأول والثاني أيضا هجروا كتابة القصة وكتبوا الرواية أو ربما تشبثوا بكتابة القصة أيضا على استحياء مع كتابتهم للرواية . وهنا أيضا التفت النقد إلى الجانب الروائي من أعمال هؤلاء الكتّاب، ولم يلتفت بالقدر نفسه إلى مجموعاتهم القصصية، وبقي الجانب القصصي إما مجهولا أو يورد بعجالة على هامش التناول النقدي للجانب الروائي لهؤلاء الكتاب الذين صاروا يعرفون أنهم روائيون، كتبوا القصة القصيرة في بداياتهم، ليُنظر إليها على أنها مرحلة تم تجاوزها كدليل على التطور الفني للكاتب .
كما أنه لا يغيب عن البحث رغبة الكتّاب الجدد في كتابة الرواية، وليس في كتابة القصة القصيرة، وكلهم يتطلع لهذا الجنس الأدبي بشغف، لما تحمله الرواية وكتابتها من أحلام ممكنة التحقق سريعا من شهرة، ومن مال، ومن حضور في قلب المشهد الثقافي، ولعل هذا يشكل السبب الثالث الذي يقود إلى السببين الرابع والخامس المتعلقين بفرصة النشر المجاني وفرص المشاركة بجوائز الرواية المتكاثرة .
وفيما يخص النشر فإن الناشرين يفضلون في الأعم الأغلب نشر الروايات على نشر المجموعات القصصية، لأن الناشر له عينان تنظران إلى ما بعد النشر، العين الأولى تتشوّق إلى القارئ المتلهف على اقتناء الروايات وقراءتها؛ لأنها هي البضاعة الرائجة في السوق الأدبي العربي المعاصر، وأما العين الثانية فتتشوّق إلى المشاركة في إحدى جوائز الروايات هنا أو هناك، ما يعني له في الحالتين الإقبال على الكتاب والربح المادي، وشهرة الدار وصاحبها كذلك، وتوفّر له هذه الحالة مناخا جيدا لاستقطاب زبائن جدد من الكتّاب كون دار النشر هذه ستصبح متمتعة بمزايا خاصة من الترويج والدعاية المجانية المصاحبة لفوز الروايات التي صدرت عنها، إذ نادرا ما تتجاهل التقارير الصحفية والمراجعات النقدية ذكر دار النشر، وربما تعدى ذلك إلى الإشادة بتلك الدار وسمعتها الطيبة، وما تقدمه من رواياتٍ وصلت غير مرة إلى القوائم الطويلة والقصيرة عدا الفوز بالجائزة، لذلك ترى أن دار النشر في حالات معينة تكون أحرص من الكاتب على المشاركة في ترشيح روايات الكاتب، لما تجنيه أيضا من نسبة من الجائزة تكون معلومة سلفا في العقد الموقع بين الكاتب ودار النشر .
في ظل هذه الأجواء المحتفية بالرواية ابتعد القارئ عن كل الأجناس الأخرى ما عدا الرواية إلا في حالات نادرة. هذا القارئ الذي مورست عليه أيضا عملية تضليل نقدية وإعلامية ضخمة في التهويل من الرواية وأهميتها وأثرها في بناء الوعي الذاتي والجمعي والتكوين الثقافي، وتضاؤل أثر الأجناس الأخرى من قصة قصيرة وشعر ومسرحية وما إلى ذلك، وسوقت هذه الأجناس على أنها للكتّاب الهواة، وليست للكاتب المحترف، وبالتالي تولّدت قناعة أو ما يشبه القناعة لدى القارئ أنه من الإحترافية أن يقرأ روايات؛ لأنها أدب المحترفين ليصبح أيضا قارئا محترفا، ويفاخر بإنجازه قراءة روايات متعددة من تلك الروايات الفائزة أو المشاركة بالجوائز، لاسيما الواصلة إلى القائمتين الطويلة والقصيرة، فقد منحها هذا الوصول جواز سفر قوياً لتحتلّ مكتبة القراء باقتنائها ومن ثَمّ قراءتها، والكتابة عنها في صفحات الترويج للكتب تحت ما بات يعرف بـ "النقد التفاعلي" .
وربما وجد الدارس أسبابا أخرى مختلطة، تعود أحيانا إلى اختلاط القصة القصيرة بغيرها في النماذج المطروحة على الساحة الثقافية، وتميّع شخصية القصة القصيرة الأدبية وضياع عناصرها الفنية بين المقال الذاتي الذي ينحو منحى السردية وبين الخاطرة الأدبية، أو كتابات التأمل الذاتي، وأحيانا تتوه مع فن القصة القصيرة جدا، واختلطت كل الأجناس معا تحت ذريعة كتابة النص المفتوح، فلم يكن المجني عليه في كل تلك المعمعة في الكتابة إلاّ القصة القصيرة، لأن ما ينتج عن كل تلك الكتابات نصوص لم تنجح أن تكون قصصا قصيرة ناجحة، لا من باب الكلاسيكية، ولا من باب التجريب الفني المحتفى به في الأوساط النقدية والإعلامية على حد سواء .
إن ما خصص للقصة القصيرة من جوائز يشير إلى أن تلك الجوائز لم تفلح في تحسين صورة القصة القصيرة وتوفير مناخ داعم لكتابتها، ولم تجعلها كذلك مقبولة في الوسطين الثقافي والإعلامي كما هي الحال مع الرواية، وذلك حسبما أرى أن تلك الجوائز متواضعة إن لم تكن هامشية بالمقارنة بجوائز الرواية، ولم تحظ بالتسليط الإعلامي والثقافي كما هي جوائز الرواية، فجائزة ملتقى القصة القصيرة في الكويت مثلا، بوصفها أهم جائزة مخصصة للقصة القصيرة حالياً، لا تشكل حضورا إعلاميا قويا كجائزتي البوكر وكتارا، وإقبال الكتاب على المشاركة فيها أقل من المشاركة في جوائز الرواية للأسباب ذاتها التي ذكرتها سابقا، وإذا ما استعرض المرء عدد المشاركين أو المتنافسين على الجائزة سيلاحظ أن الفرق ذو دلالة ثقافية مهمة، تومئ إلى تواضع مكانة القصة القصيرة .
أضف إلى أن اهتمام من اهتم بالفائز بجائزة ملتقى القصة القصيرة مثلا يهتم كثيرا بشخص الفائز، وعمل حوارات عامة معه، لا تدخل إلى صلب عمله الفائز إلا نادرا . ولأتحدث عن الكاتبة الفلسطينية شيخة حسين حليوى التي فازت هذا العام (2020) بجائزة ملتقى القصة القصيرة عن مجموعتها القصصية (الطلبية C 345) لم تحظ المجموعة القصصية بمراجعات نقدية مهمة كتلك المراجعات التي تهتم بالرواية الفائزة بجائزة البوكر مثلا، ومعظم الحوارات التي أجريت مع الكاتبة، وقد اطلعت على معظمها إن لم يكن كلها، كانت مكررة وتعيد الأسئلة ذاتها، وتعرّج على المجموعة القصصية بعموميات الكتابة القصصية والموضوعاتية، ولم تدخل في عمق المجموعة وفلسفتها ما يظهر جهل أولئك المحاورين بالمجموعة وما فيها من فنيات، لأنهم، في تصوري، لم يقرؤوا تلك المجموعة، وظلت تلك الحوارات تدور حول الأصل البدوي للكاتبة، وأنها فلسطينية تعيش في (إسرائيل) بوصفها كيانا محتلا، ولا تنسى تلك الحوارات أيضا أن تدخل الكاتبة في السلك الروائي الإبداعي، وكأن أولئك المحاورين يشعرون بنقص ما لدى الكاتبة إن لم تكتب رواية، وهو بشكل عام مرَض إعلامي وثقافي مركّب، مفتوح على الجهل وتواضع إمكانيات بعض المحاورين الأدبية والثقافية .
إن كل ذلك بطبيعة الحال لم ينتج حركة نقدية تنصف القصة القصيرة وينقذها من هامشيتها، ومن تصدى لنقدها ومتابعتها، لم يتصد لها بأدوات نقدية كاملة ومؤهلة، وأبانت تلك الكتابات عن عشوائية في النقد بعيدا عن المنهجية النقدية، تلك المنهجية الحاضرة بكل زخمها في تناول الرواية .
ربما كانت تلك الأسباب التي أشرت إليها أعلاه، ومعها كذلك أسباب أخرى، يعلمها الكتّاب والناشرون أنفسهم، جعلت القصة القصيرة جنسا أدبيا مظلوما في الكتابة والنشر والقراءة والتلقي النقدي والحضور الإعلامي، وليس مظلوما فقط، بل إنه جنس أدبي يحتضر، وربما سيموت يوما ما كما ماتت المقامة وتلاشى الموشح على سبيل المثال، ولم يبق من كل تلك المجموعات القصصية إلا ما حُفظ في رفوف المكتبات العامة، أو المكتبات الخاصة بكتّابها الذين ربما سيتحسّرون على ما كتبت أيديهم من قصص قصيرة، بعد أن فشلت كل عمليات الإنعاش قصيرة الأمد ومتواضعة التأثير أن تطيل في عمره .
في ظل هذه الهامشية التي تعيشها القصة القصيرة في المشهدين الثقافي والإعلامي تصبح عملية نشر مجموعة قصصية مغامرة جريئة للكاتب والناشر، تجعل الناشر يفكر كثيراً قبل الإقدام على الدخول في مغامرة طباعة أية مجموعة قصصية، ولن يحدث ذلك، إن حدث، إلا إن استند الناشر إلى أسباب غير مستندة إلى فن القصة القصيرة وحده، بل ربما وجد في شخص الكاتب مساعدا موضوعيا للنشر إن كان روائيا مشهورا، أو إن استعد الكاتب أن يدفع تكاليف الطباعة، أو ربما ساعده الفوز بالجائزة ليعيد طباعة العمل الفائز، كما حدث مع دار المتوسط التي سارعت بإعادة طباعة مجموعة الكاتبة شيخة حليوى (الطلبية C 345) بعد الفوز بالجائزة، وقد تصدر غلاف الطبعة الثانية من المجموعة القصصية هذه الجملة : "الكتاب الحائز على جائزة الملتقى للقصة القصيرة 2019-2020"، وربما لن تجرؤ الدار ذاتها على طباعة مجموعة قصصية جديدة للكاتبة نفسها إلا بعد تروٍّ كبير، وتلكؤٍ شديد، كل تلك الدعائم ستساعد الناشر على التخفيف من تواضع التلقي على الصُّعُد كافة، إذ لا ناشر معنيّ بالخسارة في كل الأحوال .