قال أستاذ الاقتصاد لزميلتي الأثيوبية بلهجة لا تخلو من الزهو، إن البقرة الألمانية تعطي خمسين ضعفا مما تعطيه البقرة الأثيوبية من الحليب. كان ذلك قبل ما يقرب من عشرين عاما، وكانت وصفة العلماء لبلدان العالم الثالث يومها: التصنيع، ثم التصنيع، ثم التصنيع، فهو الطريق الوحيد إلى التقدم الاقتصادي والتحرر من التبعية.
كان العالم الصناعي مأخوذا بالوفرة ومندهشا بقدرته على دفع الإنتاج إلى حدوده القصوى. من أجل ذلك حقنت الماشية بالهرمونات وكل أنواع المضادات الحيوية، وأغرقت أحواض الأسماك بالمواد المطهرة.
إحتاج العالم إلى عقدين من السنين ليكتشف أن الطريق الذي سلكه ليس أفضل الطرق، فقد تناول الناس المضادات الحيوية مع غذائهم ففقدت مادة خطيرة مثل البنسلين تأثيرها، ولم يعد ثمة طريق سوى طريق العودة إلى زراعة دون أسمدة كيمياوية وماشية تتغذى في المراعي، لكن هذه العودة ليست سهلة، فمن يستطيع أن يرغم شعوبا اعتادت على الوفرة أن تكتفي بالقليل وتتخلى عن البريق الذي وفره لها التقدم العلمي والتقني ما دام هذا ميسورا، وما دام الحافز لتحقيق أعلى الأرباح هو أقوى الحوافز لإنتاج مزيد من الوفرة ومزيد من البريق.
خلال هذه الفترة أيضا، تخلت الدول الصناعية عن مصانعها لبلدان العالم الثالث، حتى لم تعد هذه التسمية تصح عليها إلا بقدر تعلق الأمر بفقرها، فقد جرى ترحيل الصناعة إلى أكثر البلدان فقراً، حيث تتدنى الأجور، ولا تضمن القوانين الوطنية إلا حدا أدنى من الضمانات الاجتماعية والصحية، ويأخذ تقسيم جديد للعمل بين الدول المتقدمة والدول الفقيرة طريقه. هكذا لم تعد الأخيرة مصدرة للمواد الأولية وحسب، فقد تغلغلت الصناعة ليس في مدنها الكبرى وحدها وإنما أيضا إلى القرى والضواحي فيها. تلخص الباحثة الألمانية كريستا فيشتريش الطريق التي يسلكها إنتاج شركة نايك المعروفة للملابس الرياضية كما يلي: "في البداية ترسل الشركة تعميما بالفاكس وتكليفا بالإنتاج إلى واحد من اتحادات الصناعة التايوانية، فيقوم هذا بتوزيع تكليفات على شركات فيتنامية وأندنوسية عديدة، تقوم هذه بدورها بتكليف معامل صغيرة في محافظات مختلفة ووكلاء محليين بأقسام من الإنتاج، ويذهب الوسطاء بالمواد الأولية إلى القرى، حيث تنفذ التكليف في الآخر معامل عائلية صغيرة أو نساء يعملن في المنازل. القاعدة هي: كلما كان العمل أقل مركزية وقريبا من العمل المنزلي كلما انخفضت الأجور وأصبحت ظروف العمل غير خاضعة للمراقبة وقل التنظيم النقابي."
في التقسيم الجديد للعمل تقوم الدول المتقدمة بالبحث العلمي وتحقيق مزيد من التقدم التقني. تحتفظ لنفسها بعملية التخطيط، حيث يزداد عدد العلماء والمهندسين وتحتفظ التجارة وقطاع الخدمات بنسبة كبيرة من العاملين، بينما يتضاءل عدد العمال في قطاع الإنتاج، لأن الإنتاج سيجري في مكان آخر من العالم، في الفلبين، الهند، باكستان، كوريا، فيتنام، أندنوسيا والصين.
يبدو الأمر وكأن ما كانت تصبو إليه البلدان الفقيرة قد تحقق فجأة، والأموال التي كانت تنقصها لإقامة صناعة وطنية تأتي الآن في صورة استثمارات أجنبية، لكن ثمة فرقا بين رغبة التصنيع القديمة التي أريد بها سد الحاجة المحلية، وتصنيع بضائع التصدير القائم اليوم، والذي لا تحصل منه هذه الشعوب إلا على الفتات. ولما كانت هذه البلدان لا تملك أنظمة متقدمة لحماية البيئة والتخلص من نفايات الصناعة، فإنها ستجد نفسها ذات يوم في مواجهة التلوث وخراب البيئة، فهل ستجد أيضا طريقا للعودة؟
القمة العربية 2000