تَسكنُ في أوبَرفيليَيْه
كأنك تسكنُ في قسطنطينةَ
أو في سوقِ بَراغيثَ ...
وأحياناً
تشعرُ أنك في جُرْفٍ عالٍ
قد ينهارُ لِـمَـهْبِطِ عصفورٍ
فتموتُ ...
الشارعُ بين محطة مترو أوبرفيلييه ، وبيتِكَ
تقطعُه ، حذِراً
تتلفّتُ .
إنك لا تعرفُ في الـمَبْنى أحداً .
لا يعرفُ وجهَكَ ، في المبنى ، أحدٌ .
والمصعدُ خالٍ ،
تدخلُه حذِراً ...
والشقّةُ مؤصَدةٌ
لكنك تخشى أن تفتحَ بابَكَ .
تُرْهِفُ سمعَكَ ...
لا صوتَ .
وتدخلُ ...
تنهارُ على أوّلِ كرسيٍّ ، وتضِيع .
*
في أوبرفيلييه
كان الصيفُ الأوّلُ ...
جاءتْ أوكتافيا ، بكتيبتها المسحورةِ :
ألقتْ كلَّ حقائبِها
وأقامتْ .
كانت تخرجُ فجراً
وتعود مساءً في العاشرةِ .
كانت متعَبةً ، دوماً :
تُغْمِضُ جفنَيها ، بعد قليلٍ ، وتنامُ عميقاً
حتى الفجر .
*
إنْ أردتَ أن تحيا ، فعليك أن تكتشفَ . الحياة غيرُ متاحةٍ للمتـغافل.
وبما أنك في أوبرفيلييه ، فعليك أن تكتشف أوبرفيلييه . جاك راليتْ
Jack Ralite وزير الصحة الشيوعي سابقاً ، عُمدةُ أوبرفيلييه
حاليّاً ، أعانك في أن تجد موئلاً ومأوى . هكذا بدأتَ تطوِّفُ . تقرأ
أسماءَ الشوارع : مناضلون ومغَنّون . ليس من جنرالاتٍ هنا . جاك
راليت ، فقط ، هو رئيس أركان الثقافة . تنضَمُّ إلى الكتيبة الثقافيــة .
سوف تلقى رشيد بو جدرة معك . عبد اللطيف اللعَبي معك.
أوبرفيلييه تتفتّحُ مثل زهرةِ صيفٍ.
*
بعد هذا سيأتي إلى بيتِكَ ، النحلُ .
والبابُ هذا الذي كنتَ أوصدْتَه ، الآنَ أشرعتَهُ للرياحِ . الفراشاتُ تأوي
إليك . ومن طين باريسَ صارَ طِلاؤكَ . أحببتَ يوماً ممثِّلةً . كان مسرحُها
في الضواحي ...
سماءٌ مبارَكةٌ ظلّلَتْكَ .
السعادةُ أرهَفُ من أن تُسَمّى !
*
وكما أخبرتُكَ . لم تعُدْ أوبَرفيلييه مُلتجَأً . إنها مُتَوَطَّنٌ . وأنت لم تَعُدْ مَن أنت.
الآن لَديكَ ما يهَبُكَ التوازُنَ . لا أعني أنك ستكون مُتّزِناً . الخللُ هو الحلُّ .
لكنك في مَضافة جاكْ رالِيتْ . نعم . إلاّ أنك سوف تدفعُ إيجار الشقّةِ
من لامَدْخولِكَ. لم تقُلْ لأحدٍ أنكَ اخترتَ الموتَ سبيلاً للحريّةِ . ستُلقي بنفسِكَ
من الطابق الحادي عشــر ...
سعاد الصباح ، بلَغَها أنكَ ستنتحرُ بسببٍ من عوَزٍ وإباءٍ .
تفتحُ صندوقَ البريدِ الفارغَ دوماً
لتجد شِيكاً بعشرين ألف دولار ...
*
ستجيءُ ، مونتَيني ، الرفيعةُ ، في الصباحِ .
تجيءُ مونتَيني مع الآحادِ ،
تحملُ من عطايا السوقِ في الأحدِ الفرنسيّ ، العجائبَ :
زعتراً
ثوماً
قديداً من لحومِ الريفِ ،
جبْناً منزليّاً ...
ثم نثملُ بين فِعْلِ الحُبِّ ، والكأسِ الرفيعةِ ، والندى ،
وتظلُّ مونتَيني معي ،
تظلُّ مونتيني إلى أن تؤذِنَ الشمسُ العجيبةُ بالرحيلِ .
تقول لي :
Je vais partir !
أي أني سأذهبُ ...
*
قبلَ أن تكون في H.L.M أوبرفيلييه ، كانت الشوارع ، وغُرُفاتُ اللؤمِ ، بيوتَكَ .
كان العراقيّون يطردونك ، ويطاردونك . من مقهى إلى مقهى . من غرفةٍ إلى غرفة . يطردونك
حتى في الليل المنتصِف . مرّةً دعاني أحدُهم إلى منزله . كانت مائدتُه خبزَ اللئيم . بعد أن انتصف
الليلُ ، وتقطّعتْ أوصالُ باريس ، قال لي : اخرجْ ! وكان عليّ أن أمتثلَ ...
ومن " ساحة الأُمّة " ، Place de la Nation بدأتُ مسيرتي الكبرى ، إلى أوبرفيلييه . كنت أمشي وأمشي وأظلّ أمشي .
العسسُ ، وأحلاسُ الليلِ ، ينظرون إليّ متسائلين . ربما استغرقتْ مسيرتي ساعاتٍ أربعاً في ليلٍ خطِرٍ.
بعدَها أقسمتُ ألاّ أدخل بيتاً لعراقيّ غيرِ مؤتمَنٍ ، في باريس أو غير باريس .
*
نَصٌّ مستعادٌ من رِحلة مصر
02.02.2008
سوف نتركُ للنيلِ هدأةَ أمواجِهِ
والطيورَ
وأشجارَه الناعماتِ بخُضرتِها
النائماتِ بخُضرتِها ،
الببغاواتِ
والنخلَ
نتركُ تاريخَنا في يدَيهِ
ونمضي إلى ما وراءَ الجبال .
*
من فضائلِ أوكتافيا :
1- معرفة مَن يبيعون زهرة القِنّب في ضواحي باريس.
2- معرفة الخمور الجيّدة في الحانات الرديئة .
3- معرفة الغرف الرخيصة في الأماكن الغالية.
..............................
..............................
..........................
وهكذا قالت لي في ظهيرةِ أحدٍ : اليوم نذهب إلى " حانة سائقي الشاحنات "
Bar des Camionneurs
ولقد ذهبْنا !
ربّما كانت أحبّتْ سائقاً ...
بل رُبما كانت عشيقةَ صاحبِ البارِ !
الحقيقةُ أنّ خمرتَنا ، ظهيرةَ ذلكَ الأحدِ ، النعيمُ .
أظلُّ أذكرُ من فضائلِها : ظهيرةَ ذلكَ الأحدِ !
*
لكنّ بيتي ليس بيتي ...
هكذا ، ستكون في الـمنأى ، أوبرفيلييه ...
سوف أغادرُ البيتَ الذي أحببتُ ،
أنأى عن فرنسا
عن ندى باريس ؛
سوف تكون أغنيتي ... دمشق !
*
حتماً ، ستسألني : كيف ؟
وجدتُ رسالةً رسميّةً في صندوق بريدي المهجور .
الرسالة من وزارة الداخلية الفرنسية ، اسمُ المرسِل:
Henri Leblanc ,
Inspecteur National
Bir Hakem
إنري لُبْلان
مفتشٌ وطنيٌّ
بِير حكيم
ذهبتُ إلى المكان الموحش.
قال لي المفتش : أنت تريد الإقامة ؟ مرحباً . هل ستتعاون
معنا ؟ هذا رقم هاتفي الشخصيّ . قلتُ له : لم أفهم.
قال : سوف تفهم .
أصدقاؤكَ فهموا ما أعني .
وحين تفهم ... أرجو أن تتّصلَ !
عندك رقمُ هاتفي الشخصيّ.
*
سعد سلمان قال:
قبلَ سعدي يوسف
ما دخَلَ أحدٌ بير حكيم
وخرجَ رافعَ الرأس ...
لندن 09.01.2015