كثيرة هي مؤلفات المفكر المغربي محمد عابد الجابري التي تناول فيها نقد العقل العربي وقضايا التراث والديمقراطية، وهي كتابات جلبت له الشهرة والتقدير في أنحاء العالم العربي، غير أنها جعلته أيضاً هدفاً لهجوم البعض الذين رأوا في كتاباته "تهجماً على الإسلام".
فقد تعرض الجابري في عام 2006 لهجوم عنيف عندما نشر مقالة في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية بعنوان "ما قيل إنه رُفع أو سقط من القرآن"، وهي مقالة ساق فيها المفكر المغربي بعض الآيات القرآنية التي قالت المصادر السنية إنها "قد تكون سقطت" ولم تُدرج في نص المصحف. وكان مما قاله في المقالة إن "القرآن وقع به بعض التحريف وأن علماء السنة اعترفوا بذلك."
"مالئ الدنيا وشاغل الناس"
يرى المفكر السوري صادق جلال العظم أن الحراك الفكري الكبير الذي أحدثه الجابري هو أهم انجازات الراحل في حديث له عبّر الفيلسوف السوري الكبير صادق جلال العظم عن بالغ حزنه الشخصي لوفاة صنوه المغربي. واعتبر العظم أن من أهم انجازات الجابري أنه "أوجد توازناً في الفكر العربي بين المشرق والمغرب، بعد أن ظل المغرب يعتمد فترة طويلة على المشرق العربي، وخاصة على مصر"، كما أن الجابري أحدث حراكاً كبيراً في الفكر العربي. وذكر العظم هنا المساجلات الحيوية التي دارت بين الجابري وجورج طرابيشي التي ذكَرته بالمناظرة التاريخية "التي جرت بين الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب". ويرى العظم أن ما يُقال عن أنه "تهجم على الإسلام فهذا كلام فيه كثير من التعنت والافتراء".
"مهاجموه لم يقرأوه"
في هذه النقطة يتفق الشاعر المغربي حسن نجمي مع الفيلسوف السوري. ويرى نجمي " أن أغلب الذين هاجموه "لم يقرأوه كما ينبغي، بل اجتزأوا ما قاله ثم هاجموه". ويضيف نجمي أن الجابري "لم يكن منشغلاً بالبعد اللاهوتي في الإسلام، بل كان ينطلق من المسلمات والبديهيات التي تشكل أساس العقيدة الإسلامية ليتأمل في أشكال التفكير حول الإسلام". ويشير نجمي إلى أن الجابري واجه انتقادات من العلمانيين مثلما لقي هجوماً من المتدينين، لأنه "كان ينطلق من داخل الإسلام لا من خارجه، وهذا ما كان يأخذه عليه الشاعر والمفكر العربي الكبير أدونيس، على أساس أنه فقيه، لا تنقصه سوى جبة الفقهاء". كان الجابري - يقول نجمي - "يدعو إلى مقاربة عقلانية للنسق الديني الإسلامي"، ولكنه كان "ينطلق من داخل المنظومة الإسلامية ذاتها، لا من منطلق مخاصمتها أو من باب الإساءة إليها".
أما الأستاذ الدكتور رمضان بسطويسي، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس المصرية، فيفسر ذلك الهجوم على الجابري بقوله: "حاول الجابري أن ينظر للتراث نظرة تاريخية، ويعيد قراءته في ضوء مناهج أوروبية معاصرة، وهذا ما أدى إلى اصطدامه بالكثير من العقبات". ويشير بسطويسي إلى أن إسهامات الجابري تدخل ضمن جهود عدد من المفكرين العرب المعاصرين الذين حاولوا دراسة القرآن في ضوء ما يسمى بمنهج تأويلي معاصر.
"نقد الفكر العربي" أشهر مؤلفاته
"نقد الجابري للإسلام كان ينطلق من داخله لا من خارجه" كما يقول حسن نجمي ويبقى أشهر مؤلفات الجابري هو "نقد العقل العربي" الصادر في ثلاثة أجزاء، هي "تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي" و"العقل السياسي العربي". ومن مؤلفاته الأخرى: "معرفة القرآن الكريم أو التفسير الواضح لأسباب النزول" و"إشكاليات الفكر العربي المعاصر" و"المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد" و"الدين والدولة وتطبيق الشريعة".
محمد عابد الجابري الذي توفي الإثنين في الدار البيضا، هو من مواليد فكيك شرق المملكة المغربية عام 1935، حيث بدأ تعليمه قبل أن يغادر إلى الدار البيضاء، وهناك نال دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967، ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط التي عمل بها أستاذاً للفلسفة والفكر العربي الإسلامي. وكان الراحل ناشطا في خلايا العمل الوطني ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب في بداية خمسينيات القرن الماضي، كما كان قياديا بارزاً في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قبل اعتزاله العمل السياسي وتفرغه للشؤون الأكاديمية والفكرية. كما كانت للراحل مساهمات عديدة في صحف ومجلات، وكان يصدر مجلة شهرية بعنوان "نقد وفكر". وحاز الجابري العديد من الجوائز المحلية والدولية، منها الجائزة المغاربية للثقافة بتونس في العام 1999، وكذلك جائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي في 2005 وميدالية ابن سينا من اليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة عام 2006.
الكاتب: سمير جريس