نادرة المؤلفات التي باح فيها الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو بما يختلج في صدره بشأن تجربته الدينية وتصوراته الوجودية -مع أنه غزير الكتابة-، مثلما رشح من تلك المحاورة الثنائية مع الكردينال كارلو ماريا مارتيني، التي نُشِرت تباعا على صفحات "مجلة ليبيرال" الإيطالية، على مدار سنة تقريبا، من مارس 1995 إلى يناير 1996. لم تنتظم المحاورة ضمن الطريقة المعهودة باعتماد أسئلة تقابلها أجوبة، بل جاءت بعرض مسائل متعلقة بالشأن الديني، يتناولها كِلا الطرفين، كلّ من منظوره، بالتحليل والمناقشة. وقد حظيت المواضيع المثارة حينها بمتابعة واسعة، ما دفع بالمجلة إلى الإقدام على نشرها في كتيب بعنوان: "في ما يعتقد من لا يعتقد؟"، صدر في عدة طبعات آخرها خلال العام الحالي، كما تُرجم إلى ست عشرة لغة. وإن يكن إيكو من بين أكثر الكتّاب الإيطاليين حظا في الترجمة إلى العربية، جنب بازوليني ومورافيا، فإن موقفه من الكاثوليكية ومن الدين عامة بقي غائما لدى القراء العرب، ربما من هذا الباب أردنا تسليط بعض الضوء على هذا الجانب الخفي لديه.
جاء الحوار بين الأديب والكردينال في كنف التقدير المتبادل رغم الاختلاف البين بينهما، في التصورات والتوجهات، أحدهما يقف على أرضية لائكية راسخة، بالإضافة إلى كونه أحد أبرز وجوه الثقافة العلمانية الرصينة، والآخر ينتسب إلى تراث يسوعي عريق، جاء كردّ فعل عميق على البروتستانتية وما مثلته من تحدّ للاهوت الكاثوليكي. والقدرة على الحوار بين العقل الديني والعقل العلماني في الغرب، هو ما نفتقر إليه في تقليدنا الراهن في البلاد العربية، حيث نجد قدحا متبادلا من الجهتين، أو حوار ديكة، زادت من حدته، في السنوات الأخيرة، التقاليد التي أرستها بعض القنوات التلفزية التي تروج للتناطح المقيت، وهي تزعم أنها تفسح المجال للرأي والرأي المغاير.
الأبوكاليبس.. هاجس يقضّ مضجع اللائكيين
استهلَّ إيكو الحوار بحديث عنوانه "الأبوكاليبس الجديد: هاجس لائكي"، استعاد فيه هول نهاية العالم، وهو ما ترِد تفاصيله في آخر نصوص العهد الجديد وأكثرها رمزية، سفر الرؤيا المنسوب إلى يوحنا، أو "كتاب الكشف" كما يسمى أيضا. صحيح أن عبارة "أبوكاليبس" إغريقية الأصل، وتعني رفع الستار وكشف الحجاب عن نهاية الكون، بما يقرب من المدلول الوارد في "سورة ق" في القرآن الكريم: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد". ربما لا يعنينا كثيرا هنا من دوَّن هذا السفر المثقل بالإشارات والتلميحات، وإن نَسَبه التقليد اللاهوتي إلى يوحنا، المسمى تلميذ يسوع، مع أن علماء نقد الكتاب المقدس لا يقرون ذلك، ويصنفونه من التابعين أو من أتباع التابعين، على اعتبار أن يوحنا لا يمت بصلة إلى طائفة الحواريين الأوائل؛ ولكن اللافت أن النص قد دُوِّن في عصر ساد فيه الاضطهاد الديني والجور السياسي، تميز بتعدد النصوص الأخروية التي تنشد عالما آخر مغايرا.
يذهب إيكو إلى القول بأن "نهاية العالم" اليوم هي هاجس مقلق في أوساط اللائكيين بما يفوق ما عليه الأمر بين المتدينين، وهي بمثابة الوسواس، ولا يستثني نفسه من الوقوع رهن هذا الوسواس القهري. إذ صحيح أن العلمانية تخترق وعي الإنسان الغربي، وأن "الكنائس خاوية والميادين عامرة" -كما يقال-؛ ومع ذلك لا يزال السؤال الديني حاضرا بقوة في الغرب عامة. ذلك أن مراكز الأبحاث الدينية، وكليات اللاهوت، والدوريات الأكاديمية المتابعة للظواهر الدينية، في أوروبا على سبيل المثال، هي أوفر عددا مما نجده في البلاد العربية، وبما لا تستقيم معه المقارنة أصلا. فليست أهوال الأبوكاليبس –كما يرد في سفر يوحنا- تلك الأبواق السبعة التي تعلن "اذهبوا واسكبوا كؤوس غضب الربّ السبع"، ولا الحميم الذي يُصبّ من فوق رؤوس الخلق، ولا البحر الذي يغدو دما، ولا النجوم التي تهوي فوق العباد، ولا الجراد الذي ينبعث مع الدخان من قعر جهنم، ولا جيوش ياجوج وماجوج الزاحفة؛ بل الأبوكاليبس اليوم، على ما يصوره إيكو، هو تعدد المفاعلات النووية المدمرة التي خرجت عن السيطرة، والأمطار الحمضية التي تلوّثُ المأكل والمشرب، والتواري المتسارع لغابات الأمازون، وثقب الأوزون، وجوع قارات بأكملها، والمناخات التي تتبدل، وجبال الجليد التي تتذوب. هذا هو أبوكاليبس العصر الذي يصوره إيكو، ومن هذا المنظور اعتبر نهاية العالم موضوعا لائكيا، بعد أن كان موضوعا دينيا مسيحيا. لقد تغير خوف الإنسان من نهاية العالم المتأتية من قوى غيبية، إلى إنهاء له بات من صنع البشر، أي بالتحول من أهوال مسقَطَة على الخلق إلى كوارث من صنعهم. ففي زمن يبدو فيه البشر قد هجروا الدين، ويُخيَّل فيه أن العالم الدنيوي قد تناسى العالم الأخروي، يَظهر الإنسانُ الحديث -على ما يرصد إيكو- رهينَ خوف جاثم، تقلص منه الطابع الأخروي، يستعيد فيه المرء خطاب يوحنا العجائبي للتعبير عما يتهدده.
وفي الحقيقة تطلّ من وراء الأدب الأخروي، الذي راج في التاريخ المسيحي المبكر، روح جماعية مقهورة، أضناها العذاب بأشكاله، الديني والاجتماعي والسياسي. حتى بات المرء لا يرى سبيلا للخروج من هذا المأزق الوجودي سوى بالتطلع إلى خلاص انقلابي، يترقب فيه زمنا تضرب فيه قوى جبارة العالم الذي نخره الفساد فتطيح بكافة الأعداء. وبهذا المعنى يمكن القول إن في كل نص أخروي شحنة طوباوية دافقة، حلمٌ كبيرٌ بتغيير العالم، بعد التردي الذي انتهى إليه.
إيكو.. حوارٌ رصينٌ مع الدين
ثمة روح ديمقراطية عالية لدى إيكو، في التعاطي مع الرؤى الدينية والمنظور الديني الذي يقف على نقيضه، ولعل ذلك عائد إلى انتفاء الطابع الخصامي لديه مع مؤسسة الكنيسة. يورد إيكو ضمن إحدى محاوراته: ليس للائكيين حق انتقاد حياة المؤمنين إلا في حال تضاربها مع القوانين التي أرستها الدولة، ويضرب مثلا في ذلك بامتناع بعضهم عن نقل الدم إلى أطفالهم المرضى والذين هم في حاجة ماسة إلى ذلك، في إشارة ضمنية إلى أتباع شهود يهوه، الذين يعدّون نقل الدم من شخص إلى آخر خطيئة وفعلا محرما. كما لا يجد إيكو مبررا لذمّ الكنيسة الكاثوليكية من قبل اللائكيين لأنها لا تبيح الطلاق ولا تقرّه. ويقول بصريح العبارة، إن أردتَ أن تكون كاثوليكيا لا تطلّقْ أو كن بروتستانتيا، أي في صفّ من يبيحون الطلاق. وهذه الرؤية الديمقراطية، التي تعتمد مبدأ لكم دينكم ولي دين، تحضر بالمثل في حديثه عن الإسلام، يقول في المحاورة: ضمن مبدأ عام لا أعترض على الإلزامات التي تمليها ديانات أخرى على أتباعها، وليس من حقي البتة أن أعترض على دين الإسلام في تحريمه شرب الخمرة على أتباعه. وفي حال لم يرق لي ذلك، أمتنع عن أن أكون مسلما.
ربما تعود تلك العلاقة المتسامحة لإيكو مع الدين، في أصلها، إلى أن الرجل لم يشهد صراعا مبكرا مع الدين، ولم يعان اضطرابا في علاقته بالمؤسسة الدينية. مع أنه تلقى تربية كاثوليكية حازمة ومؤثرة امتدت حتى سن الثانية والعشرين دون أثر سلبي يذكر على ما يورد. ولم يكن الخيار اللائكي لديه نابعا عن تنشئة بل نتاج مسار، هو أشبه بحصيلة تروّ مضن، جاء نتيجة تحول طويل هادئ. لذلك يُقرّ إيكو أنه لا يزال في حيرة من أمره إن كانت قناعاته الأخلاقية في الراهن، ما برحت متولدة من ذلك الإرث الديني، ومن تلك البصمة الكاثوليكية الموغلة في البدء؟
يقرّ إيكو في محاوراته بوطأةٍ وجوديةٍ لأسئلةٍ من صنف ما الحياة ومتى بدأت الحياة؟ صحيح أن مفردات السؤال الوجودي لديه دينية المبنى، ولكن الإجابة عنها دنيوية المعنى وخارجة عن النسق اللاهوتي المعتاد. فحياة الكائن البشري بدأت فقط حين سكنته الثقافة، حينها دبت فيه الإنسانية مانحة إياه لغة وفكرا منتظما. ويبرر إيكو إجابته الواقعية عن سؤال قلّما تخلص من القوالب الجاهزة، بقوله: لعلّ قدرنا ألاّ ندرك وألاّ نعي إلا ما كان ضمن السياق. إذ عادة ما يرمي "المتدين" الكلام جزافا بأن "اللامتدين" -وإن كانت الكلمة لا تصح من منظور أنثروبولوجي- يفتقر إلى منظومة خُلقية، يشرح إيكو الأمر قائلا: يجد الذين لا يؤمنون في الحياة وفي الإحساس بالحياة القيمة الوحيدة، المصدر الأوحد لأخلاق ممكنة.
لكن الملاحظ بشكل عام في المحاورة التي خاضها إيكو مع الكردينال مارتيني، أنها لا ترتقي إلى مستويات عالية من النقد، بل حافظت على استراتيجية المصالحة والمحاورة الهادئة، وتجنبت كل ما من شأنه أن يثير الخلاف، ولا سيما في تلميحه إلى منزلة المرأة داخل مؤسسة الكنيسة، وهو ما لا يعني أن الكنيسة تعيش وئاما مع الحركات النسوية في الغرب. فقد أورد إيكو ضمن حديثه، أنه لا يجد مبررا عقليا لسبب رفض النسوة من الكهانة، على غرار رفقائهم من الكهان ورجال الدين، ولكن ما إذا قررت الكنيسة ذلك فليس أمامي سوى أن أراعي رأيها واستقلاليتها، خالصا إلى أنه إذا أرادت امرأة أن تصير كاهنة أن تمر إلى عقيدة أخرى ترضاها.
في الواقع لم يذهب إيكو بعيدا في إثارة التناقض الذي تعيشه الكاثوليكية مع المرأة في الغرب، وهو الموضوع العويص الذي ما لبث جاثما على التصور الدغمائي. ذلك أن أزمة الكنيسة المزمنة مع المرأة، وفق منظور اللاهوتي الألماني السويسري هانس كونغ، تتلخص في خضوع المؤسسة الدينية إلى براديغمات القرون الوسطى، سواء في الممارسة الكهنوتية المتجلّية في الموقف الدوني من المرأة، أو في الإصرار على الإلزام بالعزوبة، الذي يمثل شرطا لازما لرجال الدين وللراهبات، الأمر الذي سبّب نزيفا وتراجعا في أعداد المنضوين في سلك الرهبنة من الرجال والنساء. هذا ناهيك عن خضوع الكنيسة عامة إلى طابع بطريركي ذكوري، تطغى عليه صورة نمطية للمرأة. وهي في الحقيقة أعراف ناشئة جرّاء أحوال اجتماعية سابقة، لا تزال تفسد علاقة الكنيسة بالمرأة إلى اليوم. فمثلا من ناحية حقوق المرأة، ما فتئت الكنيسة تحرّم استعمال موانع الحمل وتنفّر منها، هذا مع عامة النساء، أما مع الراهبات فلا تزال تستثنيهنّ من الترقّي الكهنوتي على غرار الرجال، إضافة إلى حرمانهن من الرّواتب والحصول على منح التقاعد، التي يتمتّع بها الكهنة ورجال الدين الذكور فحسب.
لعل الدرس البيداغوجي الهام لهذه المحاورة، يتمثل أساسا في تواري الاعتداد من كلا الطرفين، العلماني والديني، بالوصاية على الضمير الديني أو اليقين في امتلاك التأويل الصائب للظاهرة الدينية البالغة التعقيد، إلى فسح المجال إلى التساؤل الباحث عن التفاهم والتحاور.