لم يسبق للثقافة أن انحطت مثل هذا الانحطاط المريع والفظيع، بعد أن تحولت الى مهرجانات غنائية وكرنفالات مسرحية، وبعد أن قلب الكثير من " المثقفين "المزيفين ظهر المجن وغيروا جلودهم، وبصقوا على تاريخهم الفكري والتحقوا بالركب، واصبحوا مستاجرين وابواقًا للمؤسسة، وروضوا بسياسة العصا والجزرة، فباتوا دخلاء على المشهد الثقافي الذي يملأونه صراخًا وضجيجًا وجعجعة، ويتشدقون بشعارات زائفة وكاذبة وفكر مستهلك يمجد السلطان ويتغنى بالسلطة .. !
نعم ... في خضم هذا المشهد الموبوء توارى دور المثقف الحقيقي الذي ينير الحقائق للناس، ويثري عالم الأفكار، ويدافع عن المبادىء الانسانية ويناصر القيم الاخلاقية الجمالية، ويثير وعي الجماهير حول القضايا الراهنة والمصيرية في اللحظات الفارقة .
لقد اختفى المثقف العضوي المشتبك والنقدي، الذي يستخدم معارفه وعلومه، لجعل الناس أكثر انسانية، وأقل وحشية، والذي يستخدم نشاطه، لتسريع تقدم حرية الانسان، وزيادة معرفته أينما كان، وظهر للعيان أدعياء الثقافة، الذين لا يؤمنون بشيء سوى أنفسهم، ولا يناصرون شيئًا الا مصالحهم، وينتسبون الى قضايا، ليس لقناعتهم، في زمن أصبحت فيه الشجاعة استثناء، والنذالة عرفًا، والكذب والدجل مبدأً .. !
نريد مثقفًا ملتزمًا بقضايا شعبه، ولا يحيد عنه قيد انملة، مهما مورست عليه الضغوط السلطوية . مثقفًا لا يهادن، ولا يركع، ولا يسقط في مستنقع الخيانة الفكرية... مثقفًا من طراز ابن رشد، والفارابي، وابن خلدون، والمعري، وحسين مروة، ومهدي عامل، ومحمد عابد الجابري، وفولتير، وروسو، وغرامشي، وسواهم من دعاة العقل النقدي .
مثقفًا يقلده كل المثقفين،، ويكون قدوة لهم، محرضًا على استخدام العقل، والعلم، للوصول بالمجتمع، الى ثقافة نقدية عقلانية متنورة وحرة، قادرة على وضع الصياغات، والحلول لمشاكل الناس، وتجيب على اسئلة العصر .
حقًا اننا بحاجة الى مثقف عضوي جديد، يعيش قضايا وهموم مجتمعه، ولا يتغرب عنه، عبر الجدران العازلة والفقاعات النخبوية .