(30-03-1980)
أعرفه منذ وقت طويل، منذ كنت شبلا في منظمة الأشبال الشيوعية، كان كما اعرفه اليوم وبعد اكثر من عقدين من الأعوام، يشدد على مظهره الثوري ويتمنطق بذخيرة من الجمل الثورية يطلقها في كل المناسبات.
دائما يضع نفسه في مركز أي حدث كان وحياتنا عامرة بالأحداث. لا بد من حدث ذاتي خاص به، في اطار الحدث العام، أحيانا، من تأكيده على حدثه الخاص، تكاد تعتقد انه لولا حدثه الخاص لما جرى الحدث العام اصلا، او لكان شيئا آخر تماما.
مثلا... مظاهرة الأول من ايار تقليد عمره عشرات السنين في بلادنا، ومدينة الناصرة تحتفل سنويا بالأول من ايار حتى من قبل قيام دولة اسرائيل، بعد المظاهرة التقليدية التي تسير في شوارع الناصرة، لا بد ان تكتشف انه جرى معه حدث خاص وهام، يتناوله صاحبنا مظهرا أهمية ما حدث، يتحدث باسهاب يحلل الحدث وكأنه قيمة تاريخية ويسوق مداخلات بدون توقف بطريقة قصصية مبرزا ذكاءه الذي لا بد ان يكون ساطعا، حتى تكاد تشعر بانه لولاه ولولا حدثه الخاص لما كان اول ايار اطلاقا في التاريخ، ايضا من المؤكد ان عمال شيكاغو ما كانوا يتظاهرون في ذلك اليوم التاريخي لتسفك دمائهم ويصبح اللون الأحمر رمزا وعلما للعمال والثوريين في العالم أجمع، لو لم يؤمنوا بأنه سيظهر في مدينة الناصرة ثوريا مثل صاحبنا!!
اذا تحدثنا عن العمال فانه يؤكد ويزايد ويشدد حول ثوريتهم وصراعهم المنتصر حتما ضد البرجوازية الشرهة، لا بد من بعض جمله الخاصة التي يلفظها بطريقة مسرحية، كأن يقول وكأنه يمثل دورا على المسرح:
على ايش يخافو العمال .. ايش رايحين يخسروا ..؟
ثم يشد عروق عنقه ويشد قبضة يده اليمنى بينما اليسرى تبحث عن طريقها لجيبة الجاكيت في حركة تمثيلية تدفع الابتسامات لمن يعرفوه عن قرب، يبهر من يسمعه لأول مرة، مؤكدا بطريقته الخاصة:
لن يخسروا الا قيودهم!!
يقولها بالفصحى ويهمر، يجيل نظره بمن حوله، ليتأكد من عدم وجود معارضة، ورنين جملته يتواصل، ربما بطريقة لفظه المطول للجملة، بمد نهاية الكلمات، بالتأكيد لو كتبت حسب لفظه لها لاحتلت سطرين كاملين وبدون نقطة في النهاية....
لم اشك يوما في قناعته بخطنا السياسي. لا اقصد الهزء منه، أحبه واحترمه واعرف انه عامل من بيت يعاني من قلة الرزق. انه بروليتاري كامل من حيث وضعه الاجتماعي – الاقتصادي، حسب تعريف كلاسيكيات الفكر الشيوعي التي لم تتغير!!
كان اذا ذكر حدث ما، لا بد ان يجد صلة تربطه به من قريب او من بعيد، ويبدأ ببناء رابط ذاتي مع الحدث، كان اسلوبه بحد ذاته مشوقا، حتى لو عرفنا انه يبالغ ويروي ما لم يكن في الواقع الا تخيلات ذهنية.. كنت افهم رغم صغري ان معظم حديثه قصص مؤلفة، وانا هاو للقصص ، فما يضرني ان اتمتع بقصص خياله الخصب؟
جاء يوم، كنت قد عدت من دراستي في الاتحاد السوفييتي، غرقت في العمل السياسي، الصحفي والتثقيفي، الى جانب الكتابة الأدبية، كان صاحبنا موظفا في الحزب الشيوعي، لأسباب لا علاقة لها بموضوعي انهى الحزب عمله وابتعد عن صفوف الحزب، فيما بعد فصل او انسحب، ليس لهذا أهمية.
الناصرة كانت في طليعة التحول السياسي الذي شهده المجتمع العربي في اسرائيل بإنشاء جبهة سياسية لتخوض معركة انتخابات بلدية الناصرة وتحريرها من تحكم السلطة. الجبهة تكونت من تنظيم واسع للأكاديميين ابناء الناصرة شمل المئات، تنظيم للطلاب الجامعيين وتنظيم للتجار والحرفيين، تجند مع الجبهة شخصيات مختلفة من اوساط اجتماعية وثقافية متنوعة وراء هدف انقاذ المدينة من الاهمال في الخدمات البلدية وميزانيات التطوير واعادتها لأهلها، بلدية كرامة سياسية ووطنية، بلدية خدمات تطوير لجميع مرافق المدينة التي وصلت الى مستوى غير مقبول ومتدن جدا.
التحول انجز وكان انتصارا كبيرا ترك اثره على مختلف البلدات العربية، بل نسخت تجربة الجبهة في الناصرة الى سائر البلدات، وتحولت من تنظيم بلدي محلي الى تنظيم قطري ما زال قائما اليوم رغم ان المضامين لم تعد قائمة.. والتفكك يزداد، الوعي الوطني يتراجع، وتتصاعد بدل الفكرة الجبهوية الوطنية والسياسية، العصبيات العائلية، الطائفية والحزبية.
جبهة الناصرة لأسباب ليست ضمن موضوعي، انشقت، عدد هام من الاكاديميين ومن التجار، الحرفيين، الطلاب الجامعيين والأفراد، بل واعضاء في الحزب الشيوعي انشقوا عن الجبهة. وشكلوا حركة جديدة عرفت باسم "الحركة التقدمية"!!
فوجئت ان صاحبنا كان مع المنشقين بل وعضوا في لجنتهم التنفيذية، المضحك ان بعض وسائل الاعلام ابرزت وجود ممثل للطبقة العاملة ضمن التنظيم الجديد. كان هو المقصود. الخبر اضحكني واضحك الكثيرين الذين يعرفون "ممثل الطبقة العاملة".
بعدها التقيته كثيرا، كان منتفخا أكثر من السابق، شاعرا بأن اهميته في تصاعد، جادلته على موقفه وموقف مجموعته، حاورته محافظا على علاقات صداقة اهم من ان تسقطها خلافات في الرأي وليس في المضامين. كان يصر ان فصله لا يعني انه لم يعد شيوعيا، بل هو الشيوعي الحقيقي. "وأنا؟" سألته. لحسن حظي لم يحرمني وقتها من صفة الشيوعي.. اما الآخرون "فمخربون لا شيوعيون"، وفسر ان انضمامه هو لمصلحة الحزب العليا و"العمل الثوري العام والطبقة العاملة" . هذه الثرثرة ذكرتني بتبرير بيغن للبطش بالفلسطينيين بحجة حمايتهم!! ممن؟ من الفلسطينيين؟ أي حماية الضحية من نفسها.
يا صاحبي .. انت تهذي. قلت له .
أبدا!! انتخابات البلدية القادمة ستثبت اننا الممثلون الحقيقيون للسكان في الناصرة. سيتعلم الآخرون درسا يعيدهم الى الطريق الصحيح. ان طهارتنا، ثوريتنا ونقاوتنا فوق كل شك..
تقصد الطهارة والنقاوة بالأسلوب الذي شارك فيه الدكتور اياه في عمليات التطبيع مع مصر؟ والطهارة الثورية بالاصطفاف مع السلطة ضد الحزب الشيوعي والتحريض عليه وتحويل المعركة ضده وضد حلفائه في الوقت الذي يتفرج الأعداء علينا ونحن نأكل لحمنا؟!
الحزب يفقد طهارته الثورية، يتحول الى حزب قومي برجوازي صغير، ينسى الطبقة العاملة، انا مكاني الطبيعي في الحزب لكن ليس بشكله البرجوازي الصغير.
وانتم يا أصحاب الياقات البيضاء، سترفعون علم الطبقة العاملة وتعلمون الحزب الطهارة الثورية، من طهارة ياقاتكم ؟ من الالتزام بالبروليتاريا التي تمثلها حضرتك في تنظيمهم؟
انشققنا لمصلحة الحزب.. لمصلحة البلد، لمصلحة التطوير والبناء، لمصلحة الجبهة، نحن سنبني اكثر.
لكن السلطة لن تعطي..
نحن عندنا طرقنا الخاصة...
هذه سمعتها من واحد منكم في التلفزيون، لكن ، لماذا لم يحاول ان يعلمنا طرقه الخاصة قبل ان ينشق ؟ لا بد انها سر تكنولوجي ... او مخابراتي؟
نحن لا نهزأ. ستريك الأيام القادمة ان تأثيرنا سيمتد بعيدا بعيدا، في الناصرة وخارجها .. سنكون التيار الرئيسي .. سنكون...
ستكونون فاتيكان العرب...لكن ما هو برنامجكم؟ ما هي مواقفكم؟ انت تحاول اقناعي بحديث صبيان...
انت تفكر مثلهم. يملأون رؤوسكم بكلام فارغ الأيام ستثبت اننا قدر المسؤولية..
الأيام لمن لا يعلم او يشك لا تتوقف ...
احداث الضفة والقطاع تتفجر. قبلها التهب الجولان بالموقف البطولي النادر ضد لصوص الأرض والوطن.
انتظرت ان اسمع من صاحبنا موقف.. منشور.. تصريح .. تنفيس، اعلان عن مجرد وجود. لكن لا حياة لمن تنادي. ما يشغلهم توزيع المناصب ( والمكاسب) في البلدية القادمة.
ها نحن نتظاهر في الناصرة وغيرها، الطلاب يضربون، نعقد اجتماعات الاحتجاج، نتصادم مع الشرطة، نعيش عرس الغضب الشعبي، نُعتقل ، يطلق سراحنا ونعود لمواصلة نشاطنا النضالي ... وصاحبنا وصحبه غائبون في الغرف مكيفة الهواء.. يراقبون "الثورة" من وراء شبابيكهم الواسعة.
يجري التحضير لليوم الوطني الهام: يوم الأرض، نوزع المناشير ، نتصل بالناس تحضيرا للإضراب العام، لا اثر لهم او لممثل الطبقة العاملة، لعلهم اكتفوا بنشاطنا او يقومون بدورهم الوطني بصمت دون اثارة زوبعة.
يجيء يوم الأرض 30 آذار 1976
قمت صباحا في الخامسة، بعد ربع ساعة كنت في موقعي المحدد، ها هو الزعيم العتيد .. لمحته فجأة، صعقت به. في البداية لم اصدق، لكنها الحقيقة، يحمل زوادته وسيذهب للعمل ولتذهب الوطنية والمبادئ الى الجحيم. لا بد انه رآني. نحن نكاد نكون لوحدنا في الشارع مقابل بعضنا، شعرت انه لا بد من كلمة انهي بها النقاش بيننا. سأقول له من هو ومن هم وان الفجلة حمراء من الخارج ايضا.
قبل ان يصلني انتبه لي، انتقل بشكل سريع للجهة المقابلة من الشارع، مر علي متظاهرا بالنظر الى الجهة المعاكسة. ترددت في ان اصدمه بتحية صباح الخير.. شعرت انه لا يستحقها.
انهيت مهمة عاجلة ومشيت بسرعة في نفس الشارع الذي مر به، لم اجده. لا يمكن ان يختفي بهذه السرعة. انتبهت لحافلة ركاب صغيرة، رأيت صاحبنا داخلها، يجلس قاطفا راسه منكمشا على نفسه وتكاد رقبته تلامس قفاه. لم اجد بدا من الابتسام ومن شعوري بالشفقة عليه وعلى وطنييه البواسل.
ابدا لا حاجة لأقول له شيئا. انه يعلن عن نفسه بانه لا شيء، ما دام كذلك فليس من عادتي ان أخاطب اللاأشياء .. عندما تحركت به السيارة تذكرت صيحته:
على ايش يخافو العمال لن يخسروا الا قيودهم !!
قيودهم التي تكتب على سطرين كاملين بدون نقطة في النهاية كي تواصل الرنين لأطول وقت في آذان السامعين!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: في تسجيلي ليومياتي التزم بالحدث التاريخي وليس بقناعاتي الفكرية والسياسية اليوم. التاريخ لا يتغير بتغير القناعات الفكرية.
nabiloudeh@gmail.com