عازف العود الشهير الفنان الكبير منير بشير
ولد في مدينة الموصل مدينة الأدب والطرب لقربها من مدينة حلب السورية التي اشتهرت بأدبائها وفنانيها وسياسيها، كانت ولادة هذا الفنان المتمكن من فنه وذوقه الموسيقي والاجتماعي في جميع مناحي الحياة في عصره العام 1930 من أسرة فنية فوالده السيد بشير عزيز من صناع وعازفي العود المعروفين في مدينة الموصل الحبيبة وشقيقه الذي يكبره فناً وسناً عازف العودوالكمان الأستاذ جميل بشير الذي احاطه ووالده بالرعاية والعناية الفنية فمهدا له كل شيء له صلة بالموسيقى من الفونغراف اي (الحاكي) غرانفون والاسطوانات التي فيها جميع الالوان العزفية من سماعيات ولونكات ومقدمات موسيقية لاشهر العازفين في الشرق والغرب المنفردين والمجتمعين ومن المغنين الذين اشتهروا في ذلك العصر من الفنانين العرب وغير العرب.
وكان موضع اهتمام والده وشقيقه في تعلمه وهو في طفولته وموضع تقدير من استمع اليه وهو في السن المبكر مما دفع اسرته الى الاستيطان في بغداد ليكمل نبوغه على يد الموسيقار الكبير الذي احدث انقلاباً في عالم العزف على العود كما وصفه الموسيقار الكبير عازف العود استاذه وصاحب الألحان الشجية الفنان القدير الاستاذ محمد القصبجي عند حديثي معه عام 1961 في المعهد الموسيقي في القاهرة وعن الشريف محي الدين حيدر عميد معهد الفنون الجميلة في بغداد وعن عزفه ومؤلفاته الكبيرة على آلة العود، كان للشريف محي الدين حيدر ورعايته لهذا النابغة الصغير الأثر الكبير في حياة منير بشير فقد اخذ عنه التقنيات العالية في العزف والذوق السليم والريشة التي تسحر عند مسها الاوتار على هذه الالة العراقية الاصل والاكدية الصنعة والبابلية السحر في صوتها وانغامها، عين منير بشير مدرساً للعود في معهد الفنون الجميلة بعد تخرجه على يد استاذه الشريف محي الدين حيدر بدرجة إمتياز وحافظ واعطى هذا الامانة التي استلمها من اساذه الى طلبته ومنهم نابغة العزف والتلحين الاستاذ جميل سليم وغيره.
كان منير بشير طموحاً لابالعزف فحسب بل تعدى ذلك الى مناحي اخرى فترأس فرقة الاذاعة ثم فرقة التلفزيون الموسيقية عند افتتاحه في بغداد العام 1956 وكنت انا واشهر العازفين اعضاء ذه الفرقة حيث حبب لي البقاء في بغداد عند زيارتي لها حيث كنت عازفاً لآلة القانون في اذاعة الكويت يومها وكنت موضع تقدير واحترام من جميع فناني وموظفي واهالي الكويت إلا ان الفن والمتقن والعمل الجاد الذي رأيته في هذا العازف الشاب والذوق العالي والسليم يجذبني ويحببني اليه ومن هنا كانت انطلاقتي في العزف والتلحين والتأليف الموسيقي.
يتسائل البعض لماذا أطلقت عليه أسم زرياب القرن العشرين، لم اكن من عصر زرياب بغداد والاندلس إلا انني قرأت عن هذا الفنان الاسطوري الذي تعلم في بغداد على يد استاذه الكبير الملحن والعازف والشاعر والفقيه وصاحب اكبر معهد للموسيقى والغناء والفنون الجميلة أسحاق الموصلي بن ابراهيم الموصلي المولود سنة 767م، والذي اخذ الصنعة الموسيقية من والده ابراهيم الذي لقب بالموصلي لهروبه من الكوفة واستيطانه بالموصل خوفاً من الخليفة المهدي لاسرافه في الخمر ومن أهله كذلك وعندما عاد الى الكوفة قالوا عنه أهل الكوفة عاد الموصلي وهكذا لحق به هذا اللقب، وقد تعلم ابراهيم الموصلي الكثير من الغناء والعزف من فناني مدينة الموصل ثم ذهب الى الري في ايران وتعلم واخذ منهم الكثير قبل عودته الى الكوفة واخذ منه ابنه اسحاق كل هذه الفنون العزفية والغنائية وزاد فيها من عبقريته ونبوغه واعطاها الى طلابة ومنهم زرياب الذي تكفل اسحاق بتربيته موسيقياً وأدبياً وشاعر ومؤلفاً وملحناً وصاحب ذوق سليم لافي الموسيقى والتلحين والادب فحسب في جميع مناحي الحياة الاجتماعية ومنها طموحه بالارتقاء في الموسيقى ومعاهدها وطلبتها من ابناء الاندلس واوربا التي اخذ ملوكها وامرائها واسراتها ارسال اولادهم وبناتهم للتعلم على يد هذا النابغة العربي العراقي، هكذا كان زرياب استاذاً ومبدعاً وصاحب ذوق تدثت عنه في كتابي (زرياب والادب الامندلسي) فقد زاد في اوتار العود وتراً خامساً واختار اوتاره من امعاء شبل الاسد وخشبه من النوع الخفيف والرنان، ومن الحانه الشجية وهي (النوبة) التي تشبه في تسلسلها الغنائي (السمفونية) في الموسيقى الغربية وهذا الابداع هو جعل من استاذه اسحاق ان يطلب من زرياب مغادرة بغداد الى بلد بعيد عن اسماع الخليفة هارون الرشيد خوفاً من ان يأثر على مكانة وحضية اسحاق عند الرشيد كما يطلق المثل القائل (حسد عيشة) ولم يقتصر زرياب ذوقه على الموسيقى كما ذكرت سابقاً بل انتقاء الملابس وقص شعر الرأس والاثاث البيتية والستائر وتنظيم الجلسات والمهرجانات وملابس اعضاء الفرقة الموسيقية والمغنين والمغنيات وحتى في تقديم الشراب والكؤوس والحلويات (فالزلابية) وهي احدى الحلويات التي يكثر عملها وتعاطيها في شهر رمضان المبارك هي من ابداعات زرياب ويطلق عليها (الزريابية).
هذا هو السبب الذي جعلني ان اطلق على فنان القرن العشرين السيد منير بشير بهذا اللقب فقد كان منيراً يحمل هذا الطموح وهذا الذوق حين اختار للفرقة الموسيقية في التلفزيون اللباس الخاص ثم انفرد في معهد للموسيقى خاصاً به ثم عمل فرقة للفنون الشعبية عندما اوعز له ان يشارك بالاحتفال في يوم الشبيبة الديمقراطية في (فينا) عاصمة النمسا العام 1959 وكنت وزملائي ضمن هذه الفرقة الحكومية الرسمية، واختارت اللجان القائمة على ذلك المهرجان على عازفين من العراق الاستاذ منير بشير على العود والاستاذ سالم حسين على آلة القانون وقدمنا هذا العزف الذي كان حسن صداه في العالم أجمع، ولاننسى ان الاستاذ منير بشير تمكن من بلوغ طموحه في انشاء منصب مستشار موسيقى في وزارة الثقافة في العراق وعين مستشاراً لها ثم مديراً عاماً للفنون الموسيقية والتي ولدت فرقة البيارق، ثم اوجدت مهرجان بابل الكبير والذي استنارت به مدينة بابل الاثرية واستقطبت الكثير من الفرق العربية والعالمية ولم اسم العراق فنياً في جميع انحاء العالم، وزدانت وزادت المعاهد الموسيقية منها معهد الدراسات الموسيقية الذي كان اسمه معهد الدراسات النغمية وبيت المقام العراقي وادخلت الالات التراثية ودراستها في هذا المعهد وفي مدرسة الموسيقى والباليه، وتخرج من هذين المعهدين العديد من الطلاب البارزين في آلة السنطور وآلة الجوزة وغناء المقام العراقي ولايمكنني ذكر الاسماء لكثرتها والاطالة في الكتابة وكانت هناك جولات كثيرة لهذه الفرق التي طالت العواصم العربية والاوربية، وكان الاستاذ منير بشير على رأس هذه الفرق التي نالت هذه الجوائز والاوسمة الكثيرة وسجلت لها اسطوانات عديدة واصبحت في متناول المعاهد والاكاديميات الموسيقية في العالم اجمع، كما لاننسى عزفه الارتجالي في جميع العواصم والمدن العالمية والعربية أحدث له ضجة كبيرة في تقنياته العالية ونال فيها الاوسمة والجوائز العديدة، كان طموحاً في كل شيء حتى في المجمع العربي للموسيقى التي جعل مقره الاساسي في بغداد وكان هو الامين لهذا المجمع العربي للموسيقى، وكثيراً ما كان عقد مؤتمراته في بغداد وللوفد العراقي المكانة الكبرى في الحديث والاقتراحات، وقد اخذ طلاب وطلاب طلابه من العازفين لآلة العود بتأسيس فرقة موسيقية باسمه (فرقة منير بشير) وهذا اقل ما يستحقه هذا الفنان العبقري الذي اتمنى وأرجو من فرسان العود واساتذته في هذا العصر وهم في قمة نشاطهم وعزفهم وروحيتهم الاخاذة بالمشاعر أن ينحو نحو إستاذهم الذي جعل من هذه الالة موضع تقدير واعجاب كبار الفنانين العالمين والعرب، والا انسى قول موسيقار الاجيال الاستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب حين التقيت به انا والاستاذ الكبير جميل بشير في احدى الحفلات الخاصة في بيروت عندما كان يصطاف هناك مع زوجته السيدة نهلة القدسي في صيف 1959وعندما استمع الينا في تلك الحفلة الخالدة في ذاكرتي وذاكرة من حضر من فناني لبنان والاصدقاء قوله (ان آلة العود صنعت وعزفت في العراق) وقد اعجب بالغناء العراقي كذلك عند سماعه المطربة الكبيرة نرجس شوقي التي تمرست في الغناء العراقي الجورجينه الثقيلة وادته كما ادته قبلها المطربة العراقية الكبيرة سليمة مراد، وقد غنت نرجس شوقي الاغنية العراقية المشهورة (مسكين يليل مبتلي) وهي من مقام الهزام وفيها مقام المخالف ايضاً مما دعا الاستاذ عبد الوهاب ان يطلب من صاحب الدعوة الكبيرة ان يقدم العشاء وينهي هذه الحفلة مبكراً ليختلي كما اسمانا (بشياطين الموسيقى) وهذه المطربة العجوزة وهي مسنة ايضاً، وبعد ان اقتنع وشبع من موسيقانا وغنائنا أهدانا بصوته العذب وعزفه على عود جميل بشير اغنية (ايضن) اذانها كانت حديثة الظهور، لذا ارجو واتمنى من ابنائنا وطلابنا النجباء فرسان هذا العصر في العود الذي استمعت الى عزفهم الجميل وزاملتهم كذلك الاساتذة نصير شمة، علي الامام، خالد محمد علي، عمر بشير، سليم سالم، سامي نسيم، دريد فاضل، وغيرهم ممن لم التقي بهم وهم كثرة، اعتذر وارجو قبول اعتذاري واتمنى ان يهدوني كل واحد منهم صورته واسمه ونبذة عن حياتهم لاضيفهم في كتابي الذي اجمعه الان لطبعه ونشره، واتمنى للجميع السعي والاجتهاد في موسيقاهم وغنائهم الرصين لا الهابط واوجه كلاميلكل فنان جدير ان يقال فنان سواءً كان عازفاً او ملحناً او شاعراً غنائي او مغنيا ان يبتعدو في اعمالهم عن هذا الصخب ان عراقكم يدعوكم الى النهوض بفنه وموسيقاه امام العالم، ارجعو الى تراثكم الغني في كلماته والحانه ومقاماته واطواره الغنائية المتعددة واعلموا ان التاريخ الفني الذي قام بنائه على اسس ومناهج رصينة استفاد منها العالم يدعوكم للعودة الى الالحان الرصينة والجميلة والكلمات الهادفة، واتمنى من الذين هم الان في الساحة الفنية العالمية أن ينشروا الفن العراقي الاصيل سواءً كان عزفاً او غناءً وحتى الفن التشكلي منه او المسرحي ليعرف ان العراق لايزال ينجب فرساناً في جميع نواحي الفنون الجميلة.
ومهما عاثت الأيام أو جفت مآقينا - فأن الدهر من سومر للآن يحيّينا
المصدر: الفنون الجميلة