فرنسا :
لم افكر من قبل في السفر الى كندا . كانت اوربا وجهتي المستحبة وفرنسا في المقام الاول . لم انس ايام الدراسة بها وغدوي ورواحي من دار المغرب في شارع المدارس إلى السوربون الجديدة أو القديمة . لم أنس التوتر في الصلات السياسية لذلك العهد بين جهات في المجتمع المغربي ولم أنس ثورة ماي التي حضرتها من أولها إلى آخرها وتعلمت منها ومن الحياة السياسية الفرنسية ما دمر البضاعة الثقافية التقليدية التي كنت أحملها قبل حلولي بفرنسا . كنت شابا ولئن بقيت تلك الذكريات تربط رسنها في خيالي فلأن للشباب لذة لا تعادلها لذة , لا خوف ولا ذعر وجرأة وحسن نية , ولأن فرنسا هي البلد ذو الدولة التي كان جيشها يجوس خلال مدينة فاس وأنا طفل صغير سنة 1953 وما بعدها . يجوس حينما كنت مصعدا على طريق الطالعة الصغرى بفاس وكانت فرقة من الليجيون نازلة مدججة بالسلاح لإرهاب الناس، ويجوس حينما كنت أُشاهد مظاهرات تمر بحي البليدة ثم أفر بنفسي بعد أن جعجع الرصاص وأصاب موقعا فارقته ويجوس ويجوس .
ان تجربة الإنسان الدوني التي أدركت بعد ذلك العهد أنها كانت عامة للمغاربة لم تفارقني خلال إقامتي الشبابية في باريز إلاّ بعد أمد . جاهدت نفسي طردا لذلك الإحساس وكنت كل مرة أدفن الذكريات لاستطيع المواصلة . لكن كيف أستطيع دفن ذكرى ذهابي مع أُمي وأقاربي إلى السجن الفرنسي لنزور والدي المعتقل عند الفرنسيين ؟ وكيف أنسى التعاليم الأبوية التي كانت توصي صراحة أو كناية بالثآر من الأعداء لغة وأشخاصا وثقافة . استطعت في النهاية أن أنسى حين أدركت أن الفرنسيين الذين نكلوا بنا سنة 53 ليسوا هم الفرنسيين الذين كنت أُعايشهم سنة 67 . ونسيت نهائيا كل حقد وكل بغض راسب في كهوف الفؤاد حين أجلت عيني في الفن الفرنسي والفخامة العمرانية وفي القوانين والأعراف المنطقية التي تسري على الكبير والصغير وحين علمت بالمراقبة والمطالعة أن فرنسا ليست شيئا واحداً أحداً وأنها كثير متكاثر لا يؤاخذ منه جانب بجريرة جانب آخر .
كندا :
هذه الأحوال لم تصاحبني حينما حللت في كندا . ليس بيني وبين هذا البلد قصة صبا وطفولة ووصايا أبوية وسجون ومظاهرات ودونية الإنسان المستعمر. لم أحل في كندا إلاّ وأنا شيخ ضعيف مجرب . أما باريز فحللتها شابا يافعاً غراً . لكن مع ذلك فاني في كل تجوالي بكندا كنت أُقارن ما أرى وما اسمع بباريز وفرنسا . المدينة مدينة مونريال جزيرة يحيط بها نهر بل بحر سان لوران العظيم ولا يخترقها نهر كباريز . لو وضعت النيل والفرات فيه لاندثرا ولتصاغرا في أعين الناظرين . جزيرة عظيمة طولا وعرضا . تمتد في أرباض من كل جانب . يخيل إلي أنها تكسب في الإتساع ما تكسبه مدن أُخرى في الإرتفاع . دخلتها أول مرة وأحسست بان أهلها لا يعنيهم الزائر ولا يزعجهم وأن اتساع مدينتهم وأرضهم الممتدة من المحيط إلى المحيط أكسبهم تسامحا مع الغريب ورحابة نفس . سألت المقربين إليَّ عن عاداتهم وأخلاقهم ثم أعرضت عن ذلك إلى التجريب . هم أصلا فرنسيون ولكنهم فرنسيون مغايرون لأصلهم . القوانين بريطانية وكوين بريطانيا ماثلة على النقود وتماثيلها في أُوطاوا منتصبة أمام البرلمان الإتحادي. هم فرنسيون لم يشاركوا في الثورة الفرنسية واتخذ مصيرهم طريقا آخر . ينتقلون من الفرنسية إلى الإنجليزية في أحاديثهم كانتقال المذياع من تلك إلى تلك في يد المستمع الشغوف بالإستماع إلى الأخبار باللغتين .
لكن ماشاني بكندا ولماذا حللت بها بعد اباء وامتناع ؟ أولادي فيها منذ عشرين سنة ولم أزرها . الآن زرتها للمرة الرابعة وصرت كالمقيم بها . لا أدري السبب أو أتظاهر بذلك . ربما كان السبب ان جيلي صار يحس بالتبضع والتصفر , بأنه صار بضاعة أو أنه كان بضاعة منذ العهد الأول وأنه لم يكن شاعراً بذلك من قبل وأن العمر المتراكم أظهر ذلك الشعور وأخرجه إلى علن النفس، يحس بانه فقد إنسانيته وصار فيها صفراً . التبضع والتأنسن متنافيان لكن التبضع والصفرية الإنسانية متلازمان .
لم يكن لي عهد بالإحساس بالتبضع والتصفر في عهد الشباب . ولم أنتبه لذلك في سنوات الأمل سنوات الشباب الراشد والكهولة . لكن مع إطلال أرذل العمر زالت عن عيني الحجب . هل زالت أم هل أتخيل ذلك ؟ الا يكون الإحساس بالتبضع والتصفر حجاباً من صنف ظننته غير حجاب . بعد عودتي من فرنسا وجدت نفسي في تناقض مع ما حولي لأنني أدركت نسبية الأوضاع فلم يعد ما كان ويكون من أحوالنا كائنا قبل التاريخ ولا معاصراً له . الكل ثمرة التاريخ . أحببت ما احببت من فرنسا وكرهت ما كرهت مما حولي وكنت اؤمل أن يتغير العنصر البشري المقبل إلى ما هو خير من الجيل الذي عاصر الفصل الختامي من الحماية الفرنسية . لكن الزمان دار دورته فشاهدت في أرذل عمري مسرحيات تعاد وممثلين يتناوبون وافتخاراً بالإندحار. هذا يمثل عنترة وهذا خالداً وذاك المامون وذاك ابن أبي سلول وهذا لويس الرابع عشر .
إن الإحساس بالتصفر والتبضع لا يستقر في النفس إلّا حين يضرب المنطق في نجبينه، وحين تفجر ينابيع اللامعقول، فحينئذ يغدو القابض على منطقه كالقابض على الجمر. وإذا قبض على الجمر صار بالنسبة إلى من حوله صفرا وصار في نظر نفسه بضاعة في سوق المجانين أو ممثلا لا يلتزم بالنص في مسرحية هوائية الطعم .
اذن فقد نزلت مونريال على غير حالي حين نزلت باريز.
في أول الشباب تشاهد أول المسرحية المعادة ولا تعلم أنها معادة وتعجبك الوان من القول والردود فيها . وقد تنحاز أو لا تنحاز إلى طرف من أطرافها . لكنني مع شبابي الغر كنت أنظر إليها وإلى رجالها بعين الريبة والشك . كانت فصولها تمتع ناظري ومسامعي فكنت أتناسي الشك وأوغل في المشاهدة إيغالا وأُتابع الصراع الدرامي فيها مستمتعا . أما في ارذل العمر فانك تكون شاهدت المسرحية تامة من بدايتها إلى نهايتها وشاهدت وجيب الطبول إعلانا باعادتها. وتلك القصة التي تكرث الشعور وتنجس الفكر وتكرهك على الشعور بأنك صفر على الشمال وأن الممثلين الذين انقضت أعمارهم أو أدوارهم في العرضة المسرحية الماضية كانوا أصفاراً على شمال الشمال .
هذه حالي مع كندا التي حملت رحلي اليها . ما حللت بها حتى صرت لا ارى امامي وخلفي وفي إلاّ أصفاراً وبضاعات بشرية تتتابع في التاريخ وتظن أنها أعداد تامة . الغربة ؟ أن التصفر يتناقص في بلاد الغربة ولكنه يشتد حين يجاورالمتصفر أصفاراً أُخرى في قريته أو مدينته , أصفاراً لا تعلم أنها أصفار .
مونتريال
...
مونتريال
...