العزلةُ المقدّسة

2021-08-14

ربما ماركيز وصفَ هذه العزلةَ بالمقدّسة ليقينه بأنّ المرءَ يعيشُ فيها ملءَ حياته بعيداً عن ضجيج الواقع وبما يقابلُه الأكثرُ ضجيجاً وسائلُ الإتصال الاجتماعيّ التي ينعدم فيها التواصلُ.... غيرَ أنّ الأنفسَ الكبيرة تحيّي بعضَها عن بُعد في فترات متباعدة، فغربةُ المكان تستبدُّ بالمرء وتفضي به إلى غربة الزمان الغابر المعادي مستثنى منه سَمَر الأصدقاء والعمر الذي قفز من سنة إلى سنوات بلمح البصر والبصيرة الشائخة، مضافاً إلى هذه الغربة غربةَ اللغة . أستشهد دوماً بمعاصرنا المتنبيّ" غريب الوجه واليد واللسان ."

...

في مثل هذه الأيام كان مسرحُ فاوست موّاراً بالنشاط الاستعراضي من مسرح وإلقاء الخطب والأشعار والرقص وعرض اللوحات في الهواء الطلق، في اليوم الواحد كنتَ تشاهد معرضاً ومسرحاً ورقصاً وشعراً والكثير من البسمات حتّى تخال أنّ الألمان لا يضحكون، فقط يوزّعون البسمةَ على المجهولين من أمثالي ..... والمعروفين . لكن الآن .. هنا المكانُ خالٍ إلّا من شباب يتجرّعون البيرة المثلّجة، شكوتُ هذا الطارىء الجديد لأخي عبدالرحمن الذي أفادني بأنّ المدير الإداري لفاوست قد توفّيَ، وهو الذي عرّفني عليه إيماءً أنّ هذا هو Hans-Michael Krüger مفردٌ بصيغة الجمع يصوّتُ صمتَ هانوفر ويوصل ليلَها بنهارها، الرجلُ مات وبقي فاوست، كما مات غوته وبقي فاوست مع شياطينه تخاطب التائهين وشرّيبي الكأس..

...

الداخلُ إلى حارتي يظنُّ أن هانوفر كلها صحت للتوّ، والخارجُ منها يظنّها نائمةً بعدَ طول عمل مرهِق، فالساعة تجاوزت الثالثة فجراً .... لا صوتَ في الغرفة إلًا صوت لوحة المفاتيح، أفكّر بالخروج ... لكن إلى أين ؟ فالمكان ليس مكاني .. ولا الزمان زماني ... ولا الأصدقاءُ أصدقائي الحمقى.... ولا اللغة لغتي التي تشبه الصمت حين أتكلّم بها.... ياااا لهذا العمر الذي طال ! يا إلهي... مَن رماني إلى هذه البلاد، وكيف أتيتُها خالياً إلّا من الوحدة والوحشة ؟ مَن يأتي لي بصديقي غسان جانكير إلى هذه الوحشة كي نتبادل الأدوارَ في الشتائم ... متسامِرَين... مبتسمَين .. مختلفَين على الرغم من وحشة الطريق وقلّة الزاد ؟ في كلّ أرضٍ وطئتُها أبحتُ عن صديق أحمق، فالمرءُ على دين خليله، في المصحّ النفسي ناديتُ رجلاً أسميتُه غسان.. وعندما لم يلتفت لندائي..... اقتربتُ منه فأدار وجهَه إليّ فإذا هو رجلٌ غريب .. لا أعرفُه ولا يعرفني .. أَخرجَ هاتفَه فأراني مدينةَ حمصَ مدمّرةً على ساكنيها... قائلاً :" أ أنت من هنا" ؟ أجبتُه نعم .. وأدرتُ له ظهري حتى اختفى... واختفيتُ...

برلين.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved