الاحزان اللا مرئية

2020-07-13

لست متشائماً، رغم الحزن يضيق صدري . ما اشد مفاجآت الدنيا، عندما تكون، عنيفة، مضنية،  تثير سأم الروح، وهدم الكيان، لحظات الصمت والإنتظار ثم الموت .

كان أول نهار من شهر أيار، يوم ربيعي عذب . كانت السماء صافية والطقس مشمس . الأرض الندية راحت تتخلص من بخار رطوبة الشتاء المتراكمة فيها، وما زالت أوراق الأشجار تتلألأ بندى الليل .

خرجت من البيت لامشي تحت الشمس الدافئة  في الممرات الضيقة بين الحشائش المرقطة بالزهور البرية الصفراء والأشجار الباسقة، المتشابكة على الجانبين، فتشكل مظلة من خضرة، للقيام ببعض التمارين اليومية التي تعودت على ممارستها للإسترخاء من التوترات العضلية وكوابيس الأحلام . ولأن الوقت كان ساعة عمل، تشعر بأن الهدوء يفرض سلطته على فضاء الكون، حتى يكاد الطريق المخصص للمارّة خاليا من الناس، ماعدا أحيانا يظهر في الأبعاد ثمة رجل طاعن في السن يمشي مع كلبه . وأرى على مرمى النظر امرأة مسنة : عبارة عن مخلوقة متوسطة القامة، شاحبة الوجه، ضامرة الجسم تخترق الطرقات بخطوات متسارعة متحديةً قساوة الزمن لتؤجل وداعها إلى العالم الآخر من خلال رفع رصيدها رقماً إضافياً، فتنفخ ببالون الحياة، لتملأها ديمومة النشاط .

كان هدير خطواتي يتناغم مع كل وطأة قدم تلامس الأرض، فتبدو الحياة كقوس قزح ينشر ألوانه في الفضاء الرحيب .

تمعنت بتجمعات الطيور بأشكالها المتنوعة وألوانها المختلفة وهم ينقرون الإسفلت ويبحثون بين حنايا الحشائش الندية عن الطعام أو الدود . وهناك عصفورة جميلة، مبتهجة التقطت بمنقارها الصغير قطعة من الخبز وانطلقت بها محلقة كالطائرة عند لحظة إقلاعها نحو الشجرة العالية حيث عشها الذي هو أكبر من حجمها بمرات، قد بنته بجهد جهيد وهي تحمل الغصن بعد الغصن المتراكم كفرش منبسط على الأرض، وتحلق به لتبني بيتا لها ولصغارها . وفي كثير من المرات كان يسقط الغصن من منقارها، فتهبط ثانية بخفة ودون جلجلة أو الشعور بالعناء لجلبه . وحال أن تصل إلى العش تسمع زقزقات أفراخها فاتحةً أفواهها لاستقبال الطعام وبينما تشرع الأُم بتمضيغ الطعام وتدس في فمهم  بالتناوب حتى يشعر الجميع بالإكتفاء، وتملأ العش انسجام رائع .

كنت أُراقب سير العمل بشغف لا محدود لأكون شاهداً على استيعاب هذه العصفورة الصغيرة التي تخزن في جسدها الصغير فيض من الطاقة والصبر، يتجسد في قدرة أعضاءها على أداء هذه المهمة الشاقة، بل حبها فوق التصورات لأفراخها رغم أنها تحمل قلبا، بحجم حصوة صغيرة جدا . كنت سارحا بل مذهولا أمام هذه القوة الخارقة . كنت أتساءل ما هي أحلامها وطموحاتها وكفاحها في سبيل ديمومة حياتها وأطفالها . تنثر الفرح والبهجة وتخلق جوا من الأمل. تبني لهم عشا أوسع بعد أن كبر حجم العائلة ومتطلباتها .

بعد لحظات غادرت عشها وراحت تسبح  في دنيا الفضاء مع صمت الريح المفاجيء، تتنفس نسائم الهواء، فتنعش زهرة الحياة بعيدةً، غارقةً في أحلامها . حدث ذلك بعد إتمام عملها وتوفير المستلزمات الضرورية من الراحة والأمان لصغارها .

ما أن عادت العصفورة إلى عشها، خيم صمت طويل وقاسٍ . أصابتها شرارة الحزن، فقد خُمِدتْ فجأة، جمرة الحياة .

كان قد اقتحم طير جارح عشها الهاديء في غيابها ليهدم تعب الزمان . لَمحتُ العصفورة وهي تغادر عشها نحو الشمس الساطعة، وإذا بأشعة الشمس تلفح عينيّ فتؤلمها، بحيث عجزتُ عن متابعة العصفورة التي كانت تحلق نحو المجهول . رحلة حياتها البهيجة تنتهي هناك .

    انتابني شعوراً غامضاً يُحوِّط هواجسي، دون ان تظهر معالمه على قسمات وجهي. عدت إلى البيت، مترعاً بالحزن .

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved