هلوسة

2021-02-08

في ركن الحجرة حيث كان هناك قابعا بلا حراك، كشبح يختبئ في الظلال، مركزاً على نقطة غير مرئية، يحدق بعينين ثاقبتين خاويتين من الأحاسيس .

    منذ نعومة اظفاره، أُرسيَّ على مرافئ فكره يقيناً بأن عجلة الوقت توقفت عند ذلك الحين . تساوره مشاعر مبهمة، وكأنه يرى سراباً ينتظر بهدوء ليعاكسه في الجهة الأخرى، يمارس لعبة الموت .

   ينهمك في تحديد زاوية رؤيته نحو تلك النقطة، التي تبدو كصورة مشوشة ترسل ذبذبات مترددة تفضي إلى حالة الإنكسار والتلاشي . ورغم ذلك لا يعتريه الشك،ولكن عامل الخوف يرافقه كظله . فهو يرمق تلك النقطة دون غيرها . الغرفة غير مضاءة وليست كبيرة . يشعر بطوق يحاصره بالرغم من عدم وجود ما يشير إلى إعلان عن حالة حصار مثبت . كل ما يشعر به ويتحسس بوجوده هو ظنون وتصورات خارجة عن نطاق المنطق .

   كانت أرضية الحجرة العارية مفروشة في وسطها برداء أسود فحيم، الأمر الذي زاد من كثافة عتمتها . عيناه ما زالتا مفتوحتين مثبتتين لا حركة فيهما البتة، -يوحي ذلك المشهد- وكأن فنان يمارس مهنة النحت في صقل الحدث كالحقيقة - مسدّدتان على شاشة وهمية . تبث منها أصوات مُتلفةً لخلايا الدماغ ومهدئة للنفس :

  • لا تفكر كثيرا، لا تجهد عقلك، فأنت فانٍ لا محال، وطريقك سراج منير .

  تلك الكلمات المشجعة التي تحمل في جوهرها رسائل محبطة، كانت كدوامات مياه البحر تغرق قارب الوعي وتحبس الأنفاس وتجنب رؤية الضوء الساطع تحت سماء صافية، فيغوص في العمق كائنا معدوماً .

 يقاوم بشدة عالم النزوات، ولكن الرغبة العميقة لامتصاص تلك النزوات، لم يكن بوسعه الاستسلام تماماً امامها . فالشهوات ومغريات العصر أشد ثقلاً وتأثيرا من وزن المقاومة .

    يتمعن بنظرات متناهية من الإرباك، وكأنه يبحث عن مكونات الهواء الهائمة في الضباب، عن معانٍ لم يجد طريقا في حل لغزها، ملامح قاسية تحتاج الغور في عمق طياتها والكشف عن معالمها المستفيضة، بعد ان ظلت ساكنة كصخرة منسية منذ آلاف السنين في باطن بحر التوارث .

انتابه الشعور بأن الحائط يتقوس وتتقارب الزوايا وبضغط مجهول الدفع يثقل ظهره .  ظل رأسه منتصبا متطلعاً إلى الأمام . يتخيل النافذة المفتوحة طريقا يؤدي إلى عالم غامض، عالم غير محسوس لا نهاية له . يسمع صوتاً قادما من النافذة، لا يشبه أي صوت، يدوي في أجواء الحجرة، كموجات في وسط الهواء تحمل جزيئات مخدرة .

يستنشق رائحة ثقيلة خانقة تفوح من مكان ما مجهول لا يعرف حقيقة مصدرها، فهو ليس مؤهلا لمعرفة ذلك . ينساب في ذهنه شعوراً كمن يعيش حلماً رهيباً مفزعاً، وسط فوضى عارمة ينداح صداها من أتون الزمن السحيق، زمن يلاحقه رغماً عنه دون ان يدرك الأسباب الحقيقية الكامنة  وراء ذلك .

راحت الأسئلة تنهمر عليه كمطر الصيف:

لماذا لا يشبه أحلامي؟ لماذا يتصادم مع طموحاتي؟ أليس من حقي الفوز برغباتي ؟ لماذا لا يميز الأشياء بوضوح ؟ لماذا يعتقد أنه على طريق الصح وكل ما يراه هو مطلق ؟ لماذا لا يعترف بأنه في ازمة خانقة ؟ كانت الأسئلة تتبدد كرماد الورق في مهب الريح، دون ان يكلف نفسه جهداً إضافياً كي يحرك عقله الخامد للبحث عن الأجوبة .

وهناك اسئلة اخرى يخشى البوح بها، أو يرخي الأُذن لسماعها . منذ أن فتح عينيه على الحياة، وهو يخزن في دهاليز مخه ذات الأفكار والنصوص التي تضفي عليها ألوان القدسية، تُفَسَرُ بطرق مختلفة تخالف منطق العقل . يرى نفسه في نهاية القافلة ويخال له أنه المنتصر لأنه يستطيع ان يخدع ذاته وأن يقطع الطريق المعاكس ويرمي بسنارته المحمولة برواسب الزمن العتيق عبر أجياله وتستمر لمسافات بعيدة وكأن الزمن القديم يعيش معنا . وبسبب هذا الفراغ الكبير في دورة حياته، لا يشعر إلّا بالخوف القادم من المجهول الوهمي . الصوت المُفتَعل يتردد صداه في أذنيه كزئير الموج في لحظة الهياج .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved