أين نحن من التاريخ ؟

2020-09-16

ما زال التاريخ يربكنا، والحاضر يفعل الشيء نفسه، لأن موقعنا من التاريخ غير محدد على وجه الدّقة، نحضر مرة بوصفنا مهزومين حتى تلامس الهزيمة قعر أرواحنا، ومرة أخرى، وبالكيفية عينها وبتناقض باذخٍ، نحضر على أننا منتصرون جداً، لكن كيف يحصل هذا ؟ وكيف سنحدد موقعنا من التاريخ بناءً عليه !

تاريخنا محشوّ بالخسارات والهزائم، فلقد خسرنا حروباً كثيرة، لم يكتب لنا فيها النصر، ولبسنا أثواب الهزائم التي بثّها تاريخنا، وما زلنا حتى يومنا نشيحُ بأرواحنا عن التقاط آثار الهزيمة النفسية .

التاريخ عينه يكتنز بانتصاراتٍ لا نعرف مدى أهميتها بالنسبة إلينا في الوقت الراهن، وهل هي فتوحات حقيقية ؟ للحقيقة أني ما زلت أفهم الفتوحات على أنها كشوفاتٍ معرفية، انطلاقاتٍ صوب فضاءآت أرحب لم يكتب لها الفتح المعرفي من قبل، أما ما سوى ذلك من عمارات شهدت خراباتها لصالح أية جهة كانت، فإني لا أقرأ فيها إلّا ماضي الدماء المرصودة على السيوف التي تحزّ الأعناق، فيما عدا هذا أحب قراءة انتصارات التاريخ على أنها فتح آفاق العقل المغلقة .

سيقول قائلٌ : إننا كتبنا تاريخنا بدماء شهدائنا ! وينتفض كأنما أصابته حمّى إذا مسسنا كرامة التاريخ العربي، هذا صحيح، تاريخنا تفوح منه دماء من مضوا، لكن ماذا عن حاضرنا ؟ أليس حقاً لدماء شهدائنا علينا أن نُشعِر أرواحهم في ملكوتها أنها لم تضع هباءً منثوراً ! تاريخنا حافلٌ بالإنجازات، وحاضرنا بارعٌ في إفراغها .

منذ عقودٍ مضت، جهد العالم في وضعنا تحت الوصاية والرعاية وغيرها من المقولات التي تقرّ أننا غير مؤهلين للسير في طرقات الحياة الكبيرة، من يحتاج وصيّاً، قانونياً؛ لا يحقّ له النقاش، لأنه لم يبلغ السن القانوني، وبما أننا تحت الوصايات، هناك توصيف ظاهر أننا لم نبلغ سنّ رشد البصر والتفكير والعمل والأهلية والقيادة والبناء على المستوى الدولي، ما زلنا نحبو، نحتاج من يمسك بأيدينا ويعلّمنا المشي، ..

 نعم لقد خضنا معارك كثيرة سطّرها التاريخ، سعينا للفكاك من الوصاية والتحرر من الإستعمار، نجحنا في فكّ الطوق، تحرّرنا، وما زلنا حتى تاريخه نحتفل، نحتفل فقط، نعيد ترداد الذكرى الفرحة بجلاءآت المستعمرين المتوالية عن أراضينا، هذا يومٌ في السنة، ماذا عن باقي أيامها ! لا شيء، ننتظر أن تعود الذكرى إلينا في العام المقبل لنعيد إحيائها مجدداً، بهذه الطريقة فقط نذَّكز التاريخ، أن لا تنسانا من سجلاتك، نحن قاومنا وانتصرنا.. نعم، هذا حقيقي جداً، لقد انتصرنا في ذلك اليوم، لكن الأيام اللاحقة في حاجةٍ لانتصارات لاحقة .

 من واقعي الذي أحياه، حرصت على النبش في مفردة (انتصرنا)، وجدتها هناك فقط، مكتوبة بخطٍّ أحمرٍ رديءٍ على حائط مقبرةٍ حَوَتْ جثامين مئات الشهداء منذ عام 2012 وحتى تاريخه، أما عن (انتصرنا) حقيقةً، فلم أجد من يفسر لي هذه المفردة نعم لقد حسمها نزار قباني مسبقاً :

 (السرُّ في مأساتنا

 صُراخنا أضخم من أصواتنا..

 وسيفنا أطول من قاماتنا.

. إذا خسرنا الحرب لا غرابة..

 لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة..

 بكلّ ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة..

 بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة)..

وما زلنا ننهض كل صباح، نعدُّ العدة لنبش التاريخ، لأنّ الفضول التاريخي يصيب عقولنا بالحكاك، طالما أن حاضرنا منزوع الفعالية من الإنتصارات، أرغب في لقاء التاريخ الذي يكتب الآن وجهاً لوجه، لأخبره أننا بريئون مما تتهمنا به، إن كنت تكتب انتصارات أو فجائع، فلا الفجيعة تقدر أن تحيط بها، ولا النصر كان مؤزّراً كما نريد..

نريد انتصارات من نوعٍ آخر، انتصاراً على الجوع والخوف، انتصاراً نفسياً على الهزائم اليومية المتوالية التي ما تزال تدكُّ خنادق عيشنا، نريد معاقل للفرح والحياة، غير أن هذا لا يأبه له التاريخ، لأنه لا يأتي بالطلب، بل بالفرض، وأنّا لنا أن نفرض على التاريخ ما نريد !..

اليوم نحن في حاجة ماسة للإحياء، لكن ليس إحياء التاريخ، بل إحياء النفوس والأرواح التي سيكون باستطاعتها صناعة التاريخ للأجيال المقبلة، حينها فقط سنستطيع أن نحدد موقعنا من التاريخ، ونجيب بكل ما أوتينا من إنجازات عن السؤال السابق : أين نحن من التاريخ ؟

***

شيرين علوش

من مواليد حمص 1988، حصلت على ليسانس الآداب في اللغة الإنكليزية من جامعة البعث عام 2011، ودبلوم التأهيل التربوي من جامعة دمشق عام 2012، عملت في مجال الترجمة الأدبية والمراجعة اللغوية.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved