قد يبدو هذا العنوان غريباً (الكتابة بيد من الفضاء)، لكن الغريب أيضاً هو أني مقتنعة بما أقوله أكاد أقول قناعة شبه تامة .
لقد أثار فضولي العنوان أولاً، حين أطلقته الكاتبة الصديقة الدكتورة سمر زليخه (آخر المنازل)، وكنت سعيدةً أنها سطرت لي إهداءً في مقدمة الرواية، وبما أني على صلةٍ شخصية بها طلبت منها أن أقرأ الرواية قبل أن تخرج إلى العلن، وبالفعل أرسلتها إليّ الكترونياً، إذ غالباً ما نتبادل القراءآت قبل أن تخرج إلى الطباعة .
في البداية استهواني السّرد الذي جاء على شكلِ قيدٍ قرائيّ لا يفلتك قبل أن تنتهي منه، هذا حقيقيّ، لكن ما إن فرغتُ من قراءتها حتى بلغ مني الشكّ مبلغه : هل فعلاً هي من أنتج هذه الرواية ! هل كتبتها بخطّ يدها، هل أنتجها خيالها حقيقةً أم أن في الأمر سراً آخر لا أحد يعرفه !
قد تستهجن هي ما أقوله ويستهجنه آخرون، قد يكون فضاء الإبداع أكبر وأوسع مما يتخيله الناس، .. أنا أثق بمقدرة اللغة التي تمتلكها الكاتبة، وأعرف أن لديها من الإنسيابية الكلامية ما يعينها على إيصال أفكارها على الوجه الذي ترغب به، سبق أن اختبرت مقدرتها الفذّة في الكتابة، حين راقبتها وهي تقوم بأعمال التحرير وإعادة الصياغة الأدبية لمجموعةٍ من الكتب والأبحاث، ولا أنكر أني استفدت منها في تهذيب لغتي بما هو متصلٌ بعملي في الترجمة والتأليف أيضاً، وقد راجعت لي لغوياً وبعضاً من التصحيح الفني لمسار اللغة منذ مدة كتابي قيد النشر، وقد أصبح بحلّة لغوية فريدة .
هذا جيد حتى الآن، غير أنّ عملي الأساسي في الترجمة يفرض عليّ قراءة المؤلفات بلغاتها الأم، وقلّما قرأت روايةً فيها من الأبعاد ما لا يسعه عقل قارئ، الخيال حرّ طليق، لكن هل هو بلا أمداء ؟ يخرج هذا السؤال إلى الفكر منذ الفصل المعنون : (فقه الكواكب)، هذا العنوان يعدُّ مزيجاً لغوياً من مفردتين لا تنتميان إلى الدلالة عينها، فالفقه أمر متصل بالعقائد فيما الكواكب مسارٌ مختلف .
ما إن تشرع في قراءة هذا الفصل حتى يتغير مسار الفرح باللغة الجيدة والسرد الممتع إلى الدهشة وإلى الإستنكار قليلاً، ففي هذا الفصل يبدو أن عرّافاً قد أنجزه، له من الخبرة بمسار الكواكب الشيء الكثير، وإذا قلنا إن هذا الفصل من إنجازها، فإن ثمّة فصولاً لاحقة بعناوين مثل : في زمنٍ ما، سوق البهجة، العقل نارٌ متقدة نطفئها بالنفخ فيها، ففي هذه الفصول هناك انزياحٌ سردي ولغوي، .. ربما ليس انزياحاً، قد يكون انقلاباً في السرد نحو الصيغة المتحولة المفاجئة، في هذه الفصول يقف في وجهك السؤال مثل التمثال : هل أنت شخصٌ حقيقي موجود ؟ ما هو موقعك، ما هي منزلتك في الوجود، ما هي أفكارك عن نفسك وعن العام الحالي وعن آخر الزمان ؟
الرواية تقدّم الإنسان من وجهة نظر العوالم الأخرى، ما هو شكله، طينته، تركيبته، الأفكار التي يحتكم إليها وتشكل قانون حياته، والمزيد من الإجابات عن الإنسان الآخر في الكون التي لا يمكن أن يجيبها إلا سكان ذاك العالم أو المخلوقات الفضائية، وهنا سأطرح على الكاتبة السؤال التالي :
هل تمّ اختطافك حين منامٍ في رحلة إلى الكون الموازي لتعودي وتكتبي آخر المنازل ؟ إن لم يكن الأمر كذلك فهناك تفسيرٌ آخر سمعت عنه منذ مدة، يقول هذا التفسير إنه في قديم الزمان كان لكل شاعر جنيّ عبقري من وادي عبقر يملي عليه شعره، وإذا صحت تلك الرواية فإن من الممكن أن تكوني على صلةٍ بجنيّ ما، أو أن تكوني أنت الجني نفسه !
سبق أن قرأت لك أعمالك، وأقر أن رواية حبّة سكر سمراء ممتعة ومحزنة في بعض جوانبها، أما رواية البازار الكبير فشأن مختلف من حيث الأفكار والمفاهيم والقضايا التي أثارتها، بحيث تبدو على أنها توثيق نفسي سريّ للمغالطات الفكرية وما نتج عنها، وحين أتحدّث عن رواية على كفالة الموت أجد نفسي مستعدة حين الفراغ من القراءة أن أعقد مصالحةً مع الموت وأنتظره بفارغ الحب، لكن (آخر المنازل) لا يمكن ألّا أن يكون لليد الفضائية تدخّل في إنشائها..
هذه الرواية لم تدخل إلى عقلي من باب المنطق أو الخيال أو أيّ من الأبواب الأخرى، لذلك إن صحت نسبتها إلى كونٍ موازٍ أو فضائي لا بدّ أنها ستدخل إلى العقل من ذاك الباب، وللقارئ الحكم في أمر الرواية .
___
رواية "آخر المنازل"
تأليف: د. سمر زليخه
عن دار التكوين – سوريا
***