بين تائيتين - 3

2011-11-02

أعلِن عن أسماء الفائزين، حسن المرواني، الأول عن "أنا وليلى"، والثاني عبد الإله الياسري عن "قافلة الأحزان" ، وكانت النتيجة مفاجِئةً للجميع، وأكثر من تفاجأ هو الفائز الأول نفسُه ففي لحظة صدق واندهاش دفع زميلَه الياسري صائحا : لك الأولى يا عبد الإله ولي الثانية رح واستلمها ! أما الياسري فلم يكن مستغرِبا النتيجة فقد أعلن عنها مسبقا العميد الدكتور غناوي عندما وصف الشاعرَ بأنه واهم ومغرَر به (راجع الجزء الأول).
إذن القرار سياسي ، شاركت في صنعه المنظمة الطالبية لحزب البعث الحاكم "الإتحاد الوطني" بل فرضته فرضا والدليل تحمس المنظمة لقصيدة المرواني وقيامها بطبعها وتوزيعها بشكل واسع في اليوم الثاني، ثم حرمان الياسري من المشاركة في أي نشاط شعري لاحق. راح الطلبة يستنسخون قصيدة" قافلة الأحزان" باليد ليحفظوها عن ظهر قلب! أورد هذا لأهميته ولدلالته الخطيرة فهو بداية وصاية السياسة على الشعر خصوصا والأبداع عموما ، وبداية توظيفه للحزبية الضيقة ومن ثم تجنيده لخدمة الحاكم الفرد.هاكم نضدا من" قافلة الأحزان" أسوقه تعزيزا لما ذهبت اليه وتعميما للفائدة (من الطويل) :
"حملت شراع الموت في صَمت آلامي* وأرضعت من ثدي التباريحِ أعوامي/ حملت دموع الأرض في جَفن لوعتي*وخضّبت في جُرح الملايين أنغامي/ فلا فرسي يعدو فأنقذَ رايتي*ولا حربتي تردي ولا ساعدي رامِ/أنا القمحُ والنخلُ العراقيُ أنحني* جفافا،وأهوي جانب الشاطيء الطامي/وذا السنبلُ النامي وذلك منجلي* يحنُّ الى طيف من السنبل النامي/تعال وخذ ياجوعُ قمحك من دمي*ودعني أمُت وحدي على رمح آلامي/ أنا المغرمُ الهيمانُ شعبي حبيبتي*وأنفاسُه لحني وعيناه إلهامي".
ويرى القاريءُ الكريمُ أن هذا البحر (الطويل) صعب المركب لتباعد القوافي مما يحتاج الى حشو جيد من ثراء المفردات ذات الأجراس الملائمة والصور الحسية والتراكيب البلاغية التي تنسجم مع جموح العاطفة. ويرى أيضا السبك الجيد للنسيج الشعري على مدى خمس وعشرين بيتا دون هبوط أو اختلال مما يدل على طول نفَس الشاعر.
هناك تشابه بين الزميلين الياسري والمرواني في بعض من السمات، فعلاوة على الزمالة في مرحلة واحدة واختصاص واحد فهما أيضا في عمر واحد ومن منشأ ريفي. فعبد الإله الياسري من الفرات الأوسط ومن المشخاب تحديدا حيث موطن السادة آل ياسر الذين لمع منهم جده سيد نور وسيدعلوان ، من أبرز قادة ثورة العشرين، ولد شاعرنا في عام 1950، في العائلة كثير من الشعراء بل وحتى الشواعر اللائي يرتجلن الشعر والأهازيج الشعبية ارتجالا في المناسبات الدينية والافراح. ويمكنني أن اذكر منهم السيد عِلي الياسري( أخ سيد نور) شاعر لا يُشق له غبار، اشتهر من شعره الأبوذية المغناة " منتسالي" . في سن السادسة أنتقل الطفل عبد الإله الى النجف حيث التحق والده بإحدى المدارس الدينية لدراسة الفقه ، ولا بد أن اشير أن والده السيد تكليف يتعاطى الشعر القريض والشعبي ككثير من أبناء الفرات الأوسط . في النجف، سكن في بيت السيد نور في محلة البراق وهو بيت كبير قُصِف جانب منه بغارة شنتها إحدى طائرات الإنكليز المحتلين في ثورة العشرين ولا زالت آثار القصف التي هدمت جانبا منه وتركت حفرة كبيرة شاهدة على إنسانية القوات الإنكليزية التي جاءت محررة لا فاتحة!! ورغم الثروة الطائلة التي تركها سيد نور إلا أنها تضاءلت نظرا لكثرة الوارثين بل أن حياة شاعرنا حتى تخرجه من الجامعة لا تخلو من ضنك مادي، مما أرهف الحس الطبقي لدى الشاعر ودفع به نحو اليسار ، فهو إن شئتَ يساري بالفطرة! لا شك أن أنتقال عبد الإله من فضاء أخضرَ فسيح يضوع فيه عبق الشلب"ألأرز" ، مع باسقات النخيل وعرائش الكروم التي تطل على الفرات الى أزقة ضيقة ومدينة مزدحمة في أطراف الصحراء- لا تكاد ترى فيها اخضرارا-، كل شيء فيها متحرك حتى الأموات يُحمَلون ويُطاف بهم في مقام سيدنا علي ثم يُخرَج بهم من باب الطوسي الى مستقرهم الأخير في وادي السلام...أقول أن هذه الأجواء جعلت الشاعر في حنين دائم الى الريف سينعكس في كثير من قصائده ، لنتمعن المفردات في الأبيات السبعة أعلاه : الأرض- فرسي-حربة-القمح -النخل -الشاطيء- الطامي-السنبل-منجلي-السنبل-قمحك-رمح... بيد أنه وجد في النجف فضاءات رحبة وأجواء ملائمة ستصقل موهبته فالمكتبات عامرة والكتب القيمة تواجهك في كل مكان والمدارس وحلقات المساجد مفتوحة للجميع لاسيما في مسجدي الهندي والطوسي وغيرهما كثير جدا، والشعر رائج لا تكسد بضاعته ولا تبور، والشعراء النجفيون في نشاط دائم في مختلف المناسبات لا سيما الدينية والسياسية والمناقاشات مستمرة في الشعر وفي السياسة كما في الفقه واصوله ايضا!كل هذه العوامل ستفعل فعلها في دفع الفتى نحو الشعر ليكتب أول قصيدة في المدرسة المتوسطة ذكرناها في الجزء الأول. وسيتعهد هذه الموهبة بالرعاية في اعدادية النجف أستاذ وشاعر بارز هو زهير غازي زاهد.
أما الشاعر حسن المرواني ، فهو والياسري في عمر واحد ، وهو من منحدر ريفي من لواء (محافظة) العمارة في جنوب العراق ومن عشيرة كريمة عربية المحتد، والقيم الإجتماعية تكاد تكون ذاتها ولا تختلف عما هي عليه في الفرات الأوسط ، بيد أن في الجنوب وفي ريف العمارة تحديدا يحتل الغناء الريفي لاسيما "المحمداوي" المركز الأول يليه الشعر"الأبوذية والمواويل والدارمي" ثانيا، في حين تجد المرتبة الأولى في الفرات الأوسط للشعر قريضا وشعبيا أما الغناء فهو أقل شيوعا ،بسبب التأثير الديني القوي والقرب من النجف والكوفة . ففي الوقت الذي يُعلى هنا فيه مُقامُ الشاعر، يُطلَق على من يمتهن الغناء كلمة "شعّار" التي لا تنطوي على إعلاء بالرغم من أن الكلمتين من جذر لغوي واحد "شعَر"! فكلتاهما اسما فاعل أما الثانية فهي بصيغة مبالغة! نزح أهل حسن المرواني من ريف العمارة الى بغداد ككثير من العوائل التي هربت من ظلم واستغلال كبار مُلاك الأراضي الزراعية _"أتحفظ على استخدام كلمة إقطاع بل لا أرى وجودا للإقطاع في البلاد العربية راجع مقالتي: (حريّ بتاريخنا أن يُنبَش!)_ ليشتغلوا في مصالح الدولة أو بمختلف الأشغال الحرة ... وليبتنوا لهم بُيوتا ستشكل مدنا قصديرية "صرائف" في منطقة شطيط والعاصمة في الرصافة، والشاكرية (حيث سكن المرواني) في الكرخ قرب محطة السكك الحديدية، وأريد أن أعرّف القاريء بشُطيط وهي تصغير شط ، وهو مجمع كبير لمجاري المياه القذرة في بغداد قرب كراج النهضة حاليا . ولا بد من التنويه بالمأثرة الكبرى للزعيم الوطني عبد الكريم قاسم بردم هذا المستنقع الواسع جدا ، وتشييد حي سكني مكانه. ويُروى أنه عندما فكر عبد الكريم قاسم بردم شطيط اتُهِم بالجنون! وأتم مأثرته هذه بإزالة "الصرائف" كلها من بغداد وبناء دور سكنية لهؤلاء الفقراء وتمليكها إياهم في أكبر مجمع سكني في العراق والعالم العربي أقصد به مدينة "الثورة" في الجانب الشرقي من بغداد والتي يُطلق عليها الآن مدينة "الصدر". لقد رفدت هذه المدينة العراق بجيش(من السلم معقود به الظفرُ) من المثقفين العراقيين شعراء وفنانين ومطربين وصحافيين ومدرسين ومنهم شاعرنا الأستاذ حسن المرواني.

كان أول تعارف بين الزميلين عندما تألق الياسري في تائيته في مهرجان 1969(راجع الجزء الأول) والتي جلبت له شهرة وصداقات واسعة حيث تقدم منه المرواني معجبا بالقصيدة أيما أعجاب ،وروى للياسري أنه كان جالسا جنب الزميلة الشاعرة ....... ورآها تكفكف أدمعا عند إلقاء الياسري تائيته الحزينة . وفي الحقيقة أن الياسري يجيد القاء قصائده بالطريقة التعبيريه المؤثرة ويعطي للحرف الواحد نبرته يشفع له صوت قوي يشد السامعين شدا فلا غرابة في ما رواه المرواني. لم يعرف أحد أن المرواني شاعر ، إنما كان مهتما بالشعر عموما لاسيما الشعبي منه ويحفظ للشاعرة فدعة والحاج زاير و مظفر النواب وعريان السيد خلف، وكم أحرِج عندما سئل لاحقا عن شعره الآخر في أكثر من لقاء فأخرج قصيدة أخرى هي "كابوس" ،ولأنني قدمت أكثر من قصيدة للياسري فمن العدل أن اقدم قصيدة أخرى للمرواني فلا بأس أن نقف عندها...
يحلم حسن بليلاه ، وأي حلم : مسجاة في نعش ولافتة تنعاها ، وجو من الحزن والألم والذهول والذبول الذي أودى بليلى وهي في عمر الزهور فلنرَ كابوسه معا (مجزوء الكامل):
فالنعش أطبق دفتي*ه وأنت مت فلا تعين/ وقرأت لافتة هناك* يقول كاتبها اللعين/ طلابنا ينعون راحلة*بعمر الياسمين
ولي أن أداعب الأستاذ حسن المرواني : ما ذنب الخطاط فتلعنه؟ لو كانت القافية بروي الراء المقيد لجعلته بلا شك" حقير"، ثم ان "راحلة" في اللغةالعربية معناها المجازي "ناقة" ! إقبل مداعبتي البريئة. وتنتاب الشاعر الحالم تداعيات حزينة يفلت على أثرها من فكي الكابوس الجاثم على صدره راكضا لايلوي على شيء سوى التطلع في الوجوه فيبزغ وجهها فيلفاه خاليا من التعابير غير مكترث لمرآه:
فركضت ملهوف الخطى*للمقعد الخاوي الحزين/ ....ثم يختتم ...فبدرت لي وكما عهدتك* دائما لا تأبهين....والسؤال الذي يطرح نفسه والذي فات حسنا هو، لما كانت ليلى لا تأبه بك لا في اليقظة ولا في المنام : فعلامَ هذا الحبُ يا حَسنُ؟!
لنتغلغل الآن في بناء القصيدة، مجزوء الكامل "متفاعلن متفاعلن " من الأعاريض الخليلية المرنه يتلاءم مع الحزن ولا يجافي الفرح والقافية هي النون ذات الوقع الحزين جاءت مقيدة بروي النون الساكن وهذه مسألة فيها "شُبهَة" والسبب أن المد أوجب فهو جزء من الإتساق الصوتي لهذا البحر ولم يكن هناك من سكّنَ الروي من الكبار الا شوقي في قصيدة كافية في ديوانه تحسَب عليه لا له ، ولا بد من ذكر أن ما يجده دارس شعر شوقي من ضعف أحيانا هو في شعره المسرحي: مضنى وليس به حراك*لكن يخف إذا رآك....أظن أن هذا أضعف بيت قاله شوقي، ربُ القوافي الرائعات..أين هذه الكاف من كاف "ياجارة الوادي" ؟! ومع ذلك تجد شوقي قد أشبع البحر بفعل جرس الكاف، بينما نجد أن شاعرنا قد لجم التواصل الصوتي لجما وكبحه كبحا! نوضح بالرجوع للمنخل اليشكري،والجواهري والمرواني:
وأحبهـا / وتحبنـي/ ** ويحب نا/ قتهـا بعي/ ري
هـذا الدم ال/ مطلول إن/** عز الكفي/ل هو الكفي/لو
ووقفت مق/ رور الشفا/**ه حيال مو/ كبك الحزي/ني
ولا أظن أن هذا" التسكين التعسفي" بخاف على الأ ستاذ حسن المرواني ، إنما أراد التخلص من القيود النحوية كما أسلفت،لا أريد أن أتوقف أكثر فالقصيدة موجودة على الشبكة العنكبوتية بنحو عشرين بيتا وفيها "مطبات" أخرى، لكنني أنبه أن القصيدة تبدأ بالبيت : ووقفت مقررور الشفا*** ه حيال موكبك الحزين
فهي بدون مطلع ،والمطلع في القصيدة هو تاجها ومن الجلي أن التاج والرأس قد قطعا دون رحمة!! والدليل البداية بواو العطف ، التي لايمكن أن يُبدأ بها في المطالع على خلاف واو القسم وواو رب. فلنواصل بسرعة :
وعلى الرصيف تسمرت قدماي أجتر الأنين/أحسست أني ضعت في جمع الحزانى المطرقين/وصرخت ياليلى ولكن لم تكوني تسمعين
وترى العاطفة "الجياشة"بدأت بالهبوط فهو ليس وحده حزينا إنما هنا جمع من "المكبوسين" ، ثم نادى ليلى بصرخة ملتاع فزِع : " ولكن لم تكوني تسمعين"،وهنا بودي لو أسأل ألأستاذ حسنا :أما كان من ألأجدى لو تخليت عن هذا البيت ؟ ثم:
وانساب في أذنيّ صوت فانتبهت عل الرنين/( مما يُخبر أن الشاعر كان في مدرسة وفزّ على صوت الجرس !)
ووجدت أني كنت في حلم كأقداري ضنين/ فشرعت أركض لاهثا علّي أراك فتبسمين
لقد وضعها في تابوت ، ثم أخرجها من التابوت ويريد منها ابتسامة!!!! ثم يختتم الشاعر كابوسه مِسكا بالبيتين:
وأتيت هذا الصبح أحمل مسحة المتعذبين/ فبدوت لي وكما عهدتك دائما لا تأبهين
أريد من القاريء الكريم أن يعفيني من مهمة سرد القوافي القلقة والمتكلفة فقد أعطيتُه "فتبسمين" مثالا وليكتشف بنفسه الباقي!.. إنها " سردية "نُظِمت بتكلف رغم أن فكرة "الكابوس" قابلة للنقاش ..
أخيرا أود أن أشير أن شاعرنا الكبير الجواهري له ولع كبير بمجزوء الكامل، "لبنان ياخمري وطيبي" ،و"أطبق دجى" و "خل الدم" وغيرها..
للموضوع صلة أخيرة - في الإخبار والإستنتاج ، وتعليق موجز على أهم الملاحظات-
kalidjawadkalid@hotmail.com

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved