وأبدأ بالرد على الشاعر عبد الإله الياسري الذي ثمن وأشاد بما كتبت ثم أوردَ ملاحظتين أجدهما جديرتين بالرد. اولاهما تتعلق ببيت في تائيته : أنا المغرد والآلام تأكلني* والحزن يمتص كالأفعى مسراتي ، حيث جاء في معرِض تعليقي أن هذه ال"أنا" فيها نكهة أبي محسد "أنا الذي نظر الأعمى.." (راجع الحلقة الأولى) فأوضَح بأن: (أنا)ي متشائمة وأن "(أنا ) المتنبي متفائلة ،، ولم أقل خلاف ذلك يأستاذنا الياسري بل أزيد متفقا مع القاعدة الفقهية التي تنقض القياس: شبيه الشيء لا يساويه!
أما ملا حظته الثانية هو اعتراضه على ما ذهبت اليه أن الشاعر الياسري يجنح الى شعر التفعيلة مجاراة للحداثة...نعم هذا ما أراه ، وأين الدليل ؟ الدليل لدى الشاعر الياسري نفسِه ، فقصائده العمودية رغم ما تفرضه من قيود ، أجدها أكثر جزالة وابلغ تصويرا وأصدح موسقة وأغنى تعبيرا عن خلجات الشاعر...من قصائد التفعيلة رغم ما تتيحه من حرية التصرف في الشعرية، ولا أجدني باخسا الأخيرة قيمتها أبدا ومن لديه شك فليرجِع الى مجموعته الأولى (أرق النجم) وما تلاها وليقارن!
أما الأستاذ الشاعر حسن المرواني، فقد كتب لي رسالة عجلى يُشيد بما كتبت " مؤجلا معها ملاحظات لك مني تساعد على تجنيب قلمك الكريم الخوض في الحديث عن أبيات متطفلة على التائيتين لا تمت لأي منهما بصلة، فيذهب جهدك وتأتي ملاحظاتك بما ينغص عليك، قبل أن ينغص على سواك" ثم ذيل رسالته بقصيدة (أنا ..وليلى ..واشطبوا أسماءكم).."أبعثها لك بأمانة مثلما ولدت أول مرة في ذلك اليوم البعيد 22-4-1971، وقبل أن تتناولها أصابع التغيير بالحذف والإضافة- حسنت أو ساءت نواياها -".. من الواضح أن الأستاذ الكريم المرواني لم يقرأ الحلقة الثانية بتمعن، فأنا الذي أشرت الى التشويه ووقفت على الأختلاطات وأحتطت لبعض الأبيات التي تناولتها نقدا لارتباطها بالقصيدة رغم اشارتي الى أنها ليست منها، ثم صححت الأخطاء والتشويهات التي لحقتها ضمن اجتهادي وناشدت الأستاذ الشاعر أن يخرج عن صمته ويصحح (راجع الحلقة الثانية) ولم يرسل لي القصيدة الأصلية إلا بعد نشر الحلقة الثالثة! أرسل لي القصيدة وعدتها خمسة وثلاثون بيتا، وكانت غبطتي كبيرة أن أجد ما اجتهدت به يكاد أن يكون متطابقا مع القصيدة الأصلية .
عند توقفي على "كابوس" المرواني ، وجدت أن مايربطها من الناحية الشعرية (بويتري) ب(أنا وليلى) خيط ضعيف، فقد بدت الأولى هيكلا عظميا لا تكاد تجد عليه لحما.. نعم بدت منظومة أكثر منها قصيدة فلا صور متتالية فيها ولا نبرة عالية ولا عاطفة متأججة بل ولا جمل إنشائية، استفهام، تعجب، ندب، تكرار بلاغي الخ.. ناهيك عن التراكيب البلاغية الأخرى التي تعج بها (أنا وليلى)....فما الموضوع؟
من المرجَح جدا أن (كابوس) ولدت في نهاية عام 68 أو بداية عام 69 وحسن طالب في السنة الأولى وقد علق زميلته (ليلى) حبا صادقا، إذ جاء في مجلة "المربي" الصادرة عن كلية التربية عدد السنة الدراسية 68-69 نعي إحدى الزميلات، لا شك أن هذا الخبر المحزن هو الذي أوحى للشاعر أن يحلم ذلك الحلم الثقيل فكتبه شعرا متصورا أن الفقيدة هي محبوبته (ليلى) إذ من السهولة أن نعثر في (كابوس) أن حسنا لم يبُح بحبه لها بل لم يقدِر أن يُشعرها بحبه وظل يكتّم حبا قويا لخجل أو حياء متمكِن فيه، ولكن جذوة الأمل متقدة في أعماقه لم تخبُ أنفاسُها قط، رغم أنها لا تأبه به كما جاء في نهاية القصيدة! ففي لقاء مع "الشبكة العراقية" أجراه "فرات ابراهيم" يؤكد ما ذهبت اليه، كما يصرح الأستاذ المرواني بأنه قد أحرق كل يومياته وأشعاره في ليلة باردة. وهذا ما يفسر خلو (كابوس) من المطلع فقد كتب بقاياها من الذاكرة...بعد ثلاث سنوات والعام الدراسي الثالث أوشك أن ينتهي أي في عام 71 يصبح حسن يائسا من حبه، غاضبا، ساخطا فما الذي حدث؟!
عند الرجوع الى تلك الحقبة الزمنية، ستينات القرن الماضي، كانت العلاقة بين الطلاب والطالبات في الوسط الجامعي علاقات سطحية، لا تتعدى تحية الصباح عن بعد وفي الأغلب لا تكون! وإذا حصل حديث فهو مبتسر لا يتعدى الشؤون الدراسية، وكان عدد العشاق المحظوظين لايتجاوز أصابع اليدين! وكان الحب هو الآخر -على الأغلب- يساري الهوى فلطالما اختلطت السياسة بالحب، تلك إذن معالم الرومانسية الثورية ! ألم يقل لينين: ضروري أن نحلم! كان الطلاب الوافدون من الريف أومن المجتمعات المنغلقة ذات الفصل الصارم بين الجنسين ،كثيرأ ما يقع البعض منهم صيدا سهلا في شراك الحب .. وهذه الشراك غالبا ما تكون من نسيج خيالهم ! فلطالما فسروا التحية على غير فحواها، ولطالما فسروا الإبتسامة على غير سجيتها، ولطالما فسروا كل نأمة عفوية أو حركة مهما صغرت على أنها أمارة حب - وهذا التفسير السايكولوجي هو صلب نظرية الدوافع - فتراهم يبنون آمالا بل قصورا من الأماني التي يعيشون معها زمنا رغدا ثم على حين غرة تنهار هذه القصور وتتبخر الأحلام مخلفة في الحلق غصة وفي النفس حسرة وفي القلب لوعة! فتصبح التجربة مُرة تمس "الكرامة" يكبتونها أو ذكرى يحاولون شطبها في الذاكرة وما كل العشاق شعراء كحسن المرواني يستطيع أن يترجم تجربته شعرا بإحساس مرهف يُسمعه للناس ولمن "أدارت" له ظهرا ليثأر ل"كرامته" التي أهدرت في محراب الحب لا لشيء إلا لأنه ليس من مازن، وهكذا تبدأ تداعيات القصيدة التي أرادها الشاعر رسالة يوصلها لمن أحب وما كانت جديرة بالحب !!! إذن الشاعر صادق في عواطفه لكنه غير واقعي، يشهد الجميع لليلى بأنها ذات أخلاق عالية وأنها لم تكن من عائلة غنية بل متوسطة الحال، كما أن من تقدم لخطبتها -وأنا أعرفه جيدا- لم يكن غنيا أبدا وإنما كان شخصا مهذبا مثقفا وكاتبا مرموقا في أكثر من مجال...فلنسمع هذا الإخبار الذي يؤكد ما ذهينا اليه:
أضعت في عرض الصحراء قافلتي*وجئت أبحث في عينيك عن ذاتي، أتيت أحمل في كفيك أغنية*أجترها كلما طالت مسافاتي، حتى إذا انبجست عيناك في أفقي*وطرز الفجر أيامي الكئيبات، وجئت أحضانك الخضراء منتشيا*كالطفل أحمل أحلامي البريئات ... هذه الأبيات الأربعة أجدها في غاية الإبداع والتماسك وتتالي الصور بانسياب وإنسجام، إنها مركز ثقل القصيدة، ثم يردفها بإخبار جسده في بيت قاس لا ينسجم مع هذا النسيج المخملي الحزين : غرست كفك تجتثين أوردتي*وتسحقين بلا رفق مسراتي. لاحظ "تجتثين أوردتي" تعبير دموي، ثم سحق المسرات هو الآخر غير موفق! ناهيك عن غلاظة اللفظ!
إذن الإخبار هنا صدق ووضوح وجمال فما هو مصدر هذا ؟ ولماذا هذا الحنق على ليلى البريئة والدعاء عليها بالشر؟ إنها تصورات ناتجة عن الصدمة وانهيار الآمال إنها ارهاصات ذاتية لحلم ومعاناة ثلاثة أعوام تقريبا وما جاء من تكرار -عامان- هو ضرورة شعرية لا غير .. إن هذا الحنق والشعور بالظلم وإلقاء اللوم على الطرف الآخر هو حالة معروفة في علم النفس (تروما) نتيجة هول الصدمة يضخمها الشخص كنوع من التفريغ للتخفيف عن عقاب الذات.
ذاعت قصيدة المرواني بعد أن قُيض لها فنان مقتدر (الفنان كاظم الساهر) برع في تلحينها وغنائها ، فانتشرت في الأرض ذات الطول والعرض، كما تناقلتها مواقع كثيرة جدا على الشبكة العنكبوتية على مافيها من أخطاء وتشويهات بريئة وغير بريئة كما اضيف لها ما ليس منها ، ومع ذلك تجد الشباب عراقيين وعربا مفتونين جذلين بها، فهي معلقة العصر تارة وخريدة القصر أخرى وهي أجمل قصائد الشعر العربي طرا على مر العصور!! كل هذا والأستاذ حسن المرواني يسميها "القصيدة المشؤومة" كما جاء في رسالته لكاتب هذه السطور. ولا يختلف الحال كثيرا عن"كابوس" وإن بنبرة إعجاب اقل منها درجة، والجمهور على أحر من الجمر لسماعها مغناة بلحن يليق بها... أسوق هذا لا للتقليل من شأن الجمهور إنما أشير الى قضية خطيرة جدا ،وهي تدني الذائقة الشعرية بل وانحرافها أيضا! ولهذه الظاهرة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالأبعاد الإجتماعية والسياسية والثقافية التي أنتجها عصر الهزائم السياسية والحروب الكارثية وغياب الديمقراطية ومصادرة الحريات من قبل أنظة دكتاتورية، وتوظيف الأدب والفن لتمجيد الحاكم الفرد! مما يستلزم وقفة خاصة، ليست من صلب موضوعنا الآن. لقد ثار لغط كثير حول عائدية هذه القصيدة، ولكون القضية معروفة ومملة ولا طائل من الخوض فيها، أراني أمام ملاحظتين لابد من ذكرهما :
أولا: أجد أن الأستاذ الشاعر حسن المرواني ساهم بشكل او آخر باهتزاز هذه الصورة، فلماذا لم يذكر أنه عارض في هذه القصيدة تائية الأستاذ عبد الإله الياسري، وهذه قضية لا غضاضة فيها، فالمعارضات حاضرة في الشعر العربي منذ العصر الأموي ولا داعي ان نستفيض في موضوع النقائض، وفي عصرنا هذا عارض شوقي في قصيدته"مضناك جفاه مرقدة" مع جمهرة من الشعراء قصيدة الحصري "ياليل الصب متى غده".. كما أن الجواهري في قصيدته "لبنان ياخمري وطيبي" عارض فيها قصيدة بشارة الخوري "بغداد ماحمل السرى* مني سوى شبح مريب" عند زيارته لبغداد. فلو ذكر المرواني هذه القضية لأغلق كل الأبواب ووفر لنفسه كل هذا العناء الذي واجهه.
ثانيا: لئن حصل تشكيك في قصيدة عمرها أربعة عقود، ولا زال شاعرها حيا ولا زالت حية في ذاكرة مستمعيها الأحياء في المهرجان حين القيت، فماذا نقول عن "ديوان العرب" عبر عمره المديد لقرون عديدة؟! هل من لائم يلوم طه حسين على زعمه في كتاب "في الشعر الجاهلي"بأن معظم هذا الشعر منحول أو موضوع في عصر التدوين لأسباب سياسية أو دينية أو عصبية؟!
وقبل أن انهي هذه المقالة أود أن أعرج على بعض الأسئلة، فالأستاذة ناهد الجمال من المنصورة، تقّيّم الموضوعات والشعر عاليا، وتذكرني بأن شوقي هو أمير الشعراء " فكيف تزعم ياأستاذ أن له شعرأ ضعيفا أحيانا؟". نعم، أستاذتي الكريمة زعمت أن هناك ضعفا في بعض شعره المسرحي، وليس هذا بضائرة فلم يسلم شاعر عظيم من بعض الهنات والمنزلقات، ولا يسعني المجال الآن لأرجع لأساطين النقد العربي القديم في نقدهم بل لكشفهم الكثير من عيوب الشعر لدى شعراء عظام بما فيهم أبو تمام والمتنبي.. وقد كنت بصدد بيت شوقي : مضنى يخف إذا رآك ( راجع الحلقة الثانية) ، وإضافة لما قلت، أزيدك سيدتي بأنه وقع في خطأ عندما استخدم الفعل" يخف" بمعنى يبرأ بوجود "مضنى" ، أنه تأثير العامية المصرية ولا شك! ،ولك أن تتأكدي بالرجوع الى المعاجم "خفف" في لسان العرب أو "المعجم الوسيط" من مجمع اللغة المصري وهو ميسور في مصر.
أما أنت يا رافد فقد أعجبني تعليقك البريء عن الحلقة الأولى :" لقد أعجبني الشعر وفهمته والكلام عليه حلو"، ، ثم جاءتني رسالتك تسأل:" كيف يصير الواحد شاعر(ا)" ،، ولاأملك سوى أن أقرّ بأن السؤال صعب، لعلي أستطيع مقاربة الجواب في مقالة خاصة.
مراجع :
د.صفاء خلوصي: فن التقطيع الشعري، ط بغداد
أحمد الهاشمي :ميزان الذهب في صناعة شعر العرب ،بغداعلي الجارم ومصطفى أمين: البلاغة العصرية ط دار المعارف القاهرة،بيروت
الجرجاني :أسرار البلاغة ، طبعات مختلفة، القاهرة، بيروت
د.ابراهيم السامرائي : لغة الشعر بين جيلين ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط2 بيروت 1980
د.ابراهيم السامرائي :فقه اللغة المقارن ،ط ،دار العلم للملايين بيروت87
نازك الملائكة : قضايا الشعر المعاصر، ط ، دار العلم للملايين
عبد الرزاق الحسني : تاريخ الثورة العراقية،ط بغداد 1935
حنا بطاطو: العراق،ج1 فصل السادة،ط 1990
عبد الصاحب الدجيلي (تحقيق): ديوان دعبل الخزاعي ،ط النجف
عبد العزيز الجواهري(تحقيق): ديوان الحبوبي،ط النجف
عبد الإله الياسري :أرق النجم
الجواهري : المجموعة الكاملة ، قافية الباء ط دمشق
أحمد شوقي :ديوان احمد شوقي، القاهرة
د. أحمد عكاشة: الصحة النفسية ، القاهرة 89
عبود الشالجي : من أوراق الشالجي ، المدى عدد2089
ابن منظور : لسان العرب، مختلف الطبعات، القاهرة ، بيروت
المربي: مجلة كلية التربية،جامعة بغداد 68-1969
مجمع اللغة العربية : المعجم الوسيط ،القاهرة
رسائل من الأستاذين ، الياسري والمرواني
المرواني: لقاء مع الشبكة العراقية، أجراه: فرات ابراهيم
www.aliraqia.mag.com/pictures/logo.gif
ِ