ذكرى الفنان عمر حسيب/حسين حمدان العسّاف

2007-12-11

ما كن//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/a160445f-8679-4b7d-a97a-d1ce96334640.jpeg ت أحسَبُ أَن أُؤَبنّ الفنان التشكيلي عمر حسيب أمام جمهور أصحا به ومحبيه ، وما كان يخطر ببالي أن يرحل عنّا رحيلاً مفاجئاً ومبكراً. غادرنا في غفلة من الزمن.. سافر بصحبة زوجته وصغيرته إلى أخيه الفنان التشكيلي زهير حسيب في دمشق ، وما درى أنه امتطى رحلةَ الموت .. رحلة الفراقِ الأبدي ليختم حادث الطريق المؤلم الذي أودى بزوجته حياته المعذبة ..

 

 


                              وإذا المنيــةُ أنشًبتْ أظفــارَها        ألفيتَ كلَّ تميـمةٍ لا تـــــــنفعُ
                              لابُدَّ من تلفٍ مقيمٍ ، فانتظرْ         أبأرضِ قومِكِ أم بأخرى المصَرعُ؟
                              ولقد أرى أَنَّ البكاءَ سفا هةٌ          ولسوف يولع بالبكـا من يُفْجـَعٌُ
                              وليأ تينَّ عليـِكَ يـــــومٌ مرةً          يُبــكى عليك مقـنعاً، لاتَســمَعُ

كان رحيله في السادس عشر من تشرين الثاني، العام 1998 صدمةً مؤلمةً لعائلتنا فرداً فرداً مثلما كان صدمةً مؤلمةً لكل من عَرَفه وأحبّه، وقبل ذلك كان مصيبة كبرى نزلت بأهله ،.. رحل عنّا الفنـا ن عمر ، وأودع فينا ذكريات لا ننساها: وهل أنسى ذكرياتِ من هو أقربُ الناس إلى القلب؟ أأنسى ذكريا تٍ جمعتنا فيها الطفولةُ والشباب والرجولة ؟ ذكرياتٍ طبعتها فينا البيئةُ الواحدة والمجتمع الواحد والمرحلةُ الواحدة .. مرحلةُ الطفولة والصبا والشبا ب والرجولة إلى يوم الرحيل الأليم ؟ لا أنسى إطلالته علينا بقامته المديدةِ التي أحنتها همومُ ا لحياة، يزورُ بيتنا بلا انقطاع زيارة المرءِ لأهله وإخوانه، ويتفقَّدُ أحوالنا على الدوام تفقَّدُ المحبُِ لأحبابه .. نخلو إلى أنفسنا في جَلْسا ت النهار وسهرات الليل الصا فية من كلّ كدَرَ الآمنةِ من كلّ ريبة، فنستعرض فيها ذكريات الماضي، ونتحدث عن أحوالنا الخاصة ، ثم نبوح لبعضنا ما نخفيه عن الآخرين عن هموم الواقع وشؤون البلد وأحدا ث الساعة ؟ كم تحدثنا عن جماهير مغيّبة عن واقعها وواقع سحق مجتمعه في ديمقراطية نسمع بها، ولا نراها، و تحدّثنا عن بلد نهب اللصوص خيراته، و أمعن أبناؤه في قهره وإذلا له، فغدا مستقبله سلعة يتاجر بها الأدعياء ويزايد عليهاالمزايدون.. وكم كناّ نجولُ بأماسينا في آفاق العالم، ونحن نرتشف القهوة أوالشاي الذي يشربه بلا سكر، فاستمتع بروحه الحالمة ، وأحاديثه الهادئة المفعمةِ بنْبراتِ الأسى ، وعقله المستنير ، ووعيه الناضج وأحكامه المتأنية ، فلا ينتهي بنا المطاف إلاَّ وانقضى هزيعٌ من الليل دون أن نشعر بمرور الوقت ، فيستأذن بالانصراف ، ثم يمضي، كما جاء رقيقَ الجانبِ ، خفيفَ الظل ، ليزورنا مرةً أخرى دون تأخرٍ زيا رةً هي أعذبُ وقعاً على قلوبِ أسرتنا من نسمات الربيع . لمست في شخصه التسامح والنبل والوفاء والصدق والإباء والاستقامة .. في زمن أصبح فيه الانتقام والرخص والغدر والكذب والهوان والانتهاز قاعدةَ عامةَ في العلاقات الاجتماعية ، ومقياساً لمهارة الإنسان في الوصول إلى ما يريد . كان يسعى في حياته إلى حلّ المشكلات بين معارفه وأصدقائه إذا حدثت ، وإلى تنقية الأجواء بينَ أصحا به إنْ تلبّدَت، لايكره شيئاً كالعنف والظلم ، ولا ينفر من شيء كالتباغض والتناحر والنميمة والتلون وإيذاء الناس، لم يتذللْ لأحد، وما صادق أحداً لمصلحةٍ أوغرض ، ورغم اعتنا قِه عقيدةً سياسية إلاَّ أنه لم ينظو تحت فئة من الناس، أو يتعصْب لطائفةٍ منهم ، أو ينتصر لعرقٍ،أو ينغلق في حزب ، كان أفقُه رحيباً أوسعَ من كلِّ هذا أو ذاك .. كان إنسانياً إلى أبعد الحدود، يحبُّ الناس، إلاَّ من استغل منهم وانتهز وألحق الأذى بالآخرين .. ولا أذكرُ يوماً أنه تعامل مع الناس على أساس الدين أو اللغةِ أو العرقِ، وإنما تعامل معهم على أنهم جميعاً مواطنون يعيشون في مجتمع واحد داخل وطنٍ واحدٍ قائم على التنوع والتعدد والاختلاف الذي يزيدُ المجتمع صلابةً وتماسكاً والوطن قوةً وازدهاراً .. كان عمر، وهو الكردي الشيوعي يرى نفسه للناس جميعهم على اختلاف تلاوينهم ومذاهبهم، كان يراهم أبناء مجتمع واحد في وطن واحد، وحين رحل كان عمر فقيد الجميع، وخسارة لمحافظته الحسكة وبلده سورية.
ولدالفـنان التشكيلي الراحل عمرحسيب عام ألف وتسعمائة وخمسين في أسرةٍ كادحة فقيرة، وتجرَّعْ طوال حياته علقمَ الفقر وعذاب الشقاء، وربما كان يمرَّ عليه يوم دون أن يملك فيه ثمنَ ربطةِ خبز أسرته بأمس الحاجة إليها، لكنَّ عفَّةَ نفسه تأبى عليه أن يصَّرحَ أو يلّمحَ بذلك لأقرب الناسِ إليه .. نهشَ الفقر صحته ، وخدش الحرمان بأ نيابه الحادّةِ قسمات وجهِه ، فا نقض عليه مرض السكر، وتكالبت أعباء الحياة الثقيلة، فلم يتزعزع أمامها ، وإنّما تصدَّىلها بقلب ثابت ، وعزمِ قوي ، ومعنويات عالية..ورغم ذلك كله كانت الابتسامةُ المشوبة بمرارة اليأ س في خضم هذا ا لعذاب لا تفارقُ وجهه الذي شاخَ قبل أوانه. أدرك عمردورالفنان في الحياة، فانحاز إلى جانب الفقراء المضطهدين في الأرض، والتزم قضايا مجتمعه وبلده، وآمن بالاشتراكية سبيلاً للمساواة وللتحرر من كل أشكال الاستغلال والاضطهاد .. قاوم الظلم والفساد والاستغلال بسلوكه اليومي الذي كان ترجمةً لقيمه التي آمن بها ، كما قاوم ذلك بفنه الذي سخَّرْهُ للدفاع عن هذه القيم، فرسم القرية والريفَ و الأرض والحقول وأوجاع الفقراء واستغلال العمال والفلاحين وتفاءل بثورتهم على الظلم والاضطهاد، وعبّرَ فنُّه الغارق في فضاءات الأحزان عن معاناة الناس البسطاء بعيداً عن كلّ التعقيدات الفنية، وكانت لوحاته ـ وهو من درس الفن دراسةً خاصة ـ تبشّرُ البسطاء المعذبين أنَّ فجرَ الخلاصِ آتٍ لا ريب فيه مهما طال الليل .. كان فناناً من الرعيل الأول في محافظة الحسكة، أقا م عشرات المعارضِ الفرديةِ والجماعيةِ في مناسباتٍ مختلفة منذ العام 1968 في المركز الثقافي العربي با لحسكة، كماأقا م معرضاً مشتركاً مع زميل دراسته وصديق عمره الفنان حسن حمدان العسّاف في العام 1993 . برحيل الفنا ن عمر فقدنا أخاً عطوفاً وصديقاً ودوداً وإنساناً نبيلاً وفناناً كبيراً ،
رحم الله الفنان عمر حسيب، ولنا في أخويه خطيب والفـنا ن زهير، وبنيه: إيفان ونورين ونيرمين خير خلف لخير سلف

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved