يعرف الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه البلاغة بأنها "الإفصاح عن حكمة مستغلقة، وإبانة علم مشكل"[1].
وسنحاول في السطور التالية دراسة هذا النص أو الحد في ضوء الوظائف البلاغية الثلاث (الجمالية، التواصلية، التعبيرية) لننظر ما إذا كان هذا الحد قد حقق هذه الوظائف أم لا..
يندرج هذا التعريف ضمن زمرة التعاريف التي اهتمت بالجانب اللغوي بمفهومه الشامل، الجانب الذي يضم تحت جناحه التعريفات التي تحدثت عن الفصاحة والبيان والكشف وتقريب المعنى، وتليين العبارة، ومن هذا التصنيف يمكن أن يتشكل المدخل للحديث عن تعريف البلاغة الذي نحن بصدد دراسته .
من المعروف أن تعريفات البلاغة لم تضبط وفق شروط المنطق الذي ينص على أن يكون التعريف جامعا مانعا، وهذا التعريف الذي بين أيدينا ينظر إلى البلاغة من زاوية الوضوح والغموض، بمعنى أن شروط القول البليغ عن الإمام الحسن –رضي الله عنه- لابد أن تخضع لشروط الإفصاح والإبانة، وإبعاد كل ما هو مستغلق ومشكل على الأفهام، وكانت نظرة الإمام رضي الله عنه مستمدة من ثقافة عصره، وتلك التقاليد والأعراف العربية التي سادت آنذاك في أشراط وخصائص القول الفصيح، فالكلام الفصيح المعتد بطلاقته وسبقه هو ذلك الكلام الذي يحقق شرط الظهور والوضوح والإنكشاف، أما الكلام الغامض فخارج عن حد البلاغة عندهم, ولعل هذه الإشكالية، أو ثنائية الوضوح والغموض قد وجدت اهتماما واسعا في العصور المتأخرة عندما ظهر مذهب البديع على يد أبي تمام ومن بعده المتنبي، إذ خالف هذا المذهب المستحدث التقاليد الشعرية العربية، وخرق الأعراف العربية السائدة القائمة على الظهور والإنكشاف، وأسالت هذه القضية الكثير من الحبر في تلك الحقبة، وحتى لا نذهب بعيدا نعود لنربط حديثنا عن التعريف بالوظائف البلاغية وسيكون ذلك على النحو الآتي :
علاقة التعريف بالوظيفة الجمالية :
معلوم أن الوظيفة الجمالية تهتم بإبراز مكامن الجمال في النصوص الإبداعية من وجهة النظر البلاغية، وتقوم باستكناه المقومات الجمالية والإبداعية من داخل النص، ولا ريب أن الشعر يأتي على سلم هذه النصوص الإبداعية، ومن هنا يمكن أن نربط التعريف بهذه الوظيفة، فالشاعر الفذ هو الشاعر الذي يستطيع تصوير الأشياء المجردة وتجسيدها وكأنها محسوسة,، فتستحيل بمقدرة الشاعر وبراعته التصويرية إلى معان واضحة بينة منكشفة، وهنا تكمن براعة الشعراء، وهنا أيضا تكون المفاضلة بين شاعر وآخر . فعلاقة هذا التعريف بالوظيفة الجمالية علاقة وطيدة فالشعر ما هو إلّا إفصاح عن مشاعر وتقريب للمعاني المتنافرة، وإبانة عن مشكل .
علاقة التعريف بالوظيفة التواصلية :
ترتكز الوظيفة التواصلية في البلاغة على مفهوم التواصل، بمعنى أن الخطاب الإبداعي الذي ينتجه المبدع فإنه وفقا لهذه الوظيفة نقطة اتصال وتواصل بين المرسل والمتلقي، ومن هنا فإن الأساس الذي تستند إليه هذه الوظيفة البلاغية هو الأساس التفاعلي الإجتماعي، القائم على التفاعل بين المبدع بوصفه منتجا أو مرسلا، والمتلقي بوصفه مستقبلا ومستهلكا لهذا المنتج الفني، والغرض من هذه العملية التواصلية التفاعلية ما يتوخاه المرسل ويستهدفه من مقاصد؛ إن تأثيرا وإن إمتاعا وإن إقناعا وإن تغييرا في السلوك العاطفي والفكري، وبناء على ما تقدم فإن التعريف الذي نحن بصدده يمكن أن يربط بهذه الوظيفة من خلال الأغراض والمقاصد, بمعنى أن الإفصاح والإبانة والكشف ماهي إلا مقاصد وأعراض يرفع بها اللبس الحاصل في ذهن المتلقي، فإفصاح القول عن حكمة مستغلقة يقوم على كشف الحجب وفك مغاليق هذه الحكمة المستترة على المتلقي والمتمنعة عليه، ومحاولة كسر الحواجز التي تحول دون الوصول إليها، وكذا الإبانة عن مشكل، فإن هذا المشكل الذي يعيق حركة ذهن المتلقي لا يمكن أن يزاح إلّا بالإبانة، ويأتي هنا دور المبدع في التوضيح والكشف وإيجاد الروابط والحلول لتقريب هذا المشكل إلى ذهن المتلقي، ومن ثم يدرك المبدع بغيته من رسالته إن تأثيرا أو إقناعا ....إلخ ....
علاقة التعريف بالوظيفة التعبيرية :
ينحصر حيز عمل الوظيفة التعبيرية في نطاق دائرة المبدع، بمعنى أن النص الإبداعي ما هو إلا مرآة وانعكاس لنفسية المبدع وصراعاته الداخلية، وآرائه وأفكاره وتوجهاته وفلسفته الخارجية، أو نظرة للخالق والكون والإنسان، فالنص الإبداعي إذن ما هو إلا ترجمة لمشاعر وعواطف تجيش في صدر المبدع فتفيض هذه العواطف متقدة بالشاعرية والحرارة والتكثيف الدلالي الذي يعد البصمة المائزة بين شاعر وآخر، وعلى ذلك فإنه يمكننا ربط التعريف محل الدراسة بهذه الوظيفة، ومن المعلوم بداهة أن لكل مبدع وبليغ طريقة مخصوصة في التعبير، وهذه الطريقة المخصوصة واقعة بدورها تحت تأثير جملة من العوامل التي توجهها وتقولبها وتطبعها بطابع معين ووسم خاص، وبما أن النص الإبداعي مرآة لنفسية المبدع، فكذلك التعبير والإفصاح والإبانة مرآة لثقافة المبدع وفلسفته الخاصة للأشياء والعوالم، بمعنى أن الإفصاح يختلف من مبدع إلى آخر، والإبانة تختلف من فنان إلى آخر، فكل إفصاح وإبانة تحمل في تفاصيلها عواطف وشخصية وتصورات ذلك المبدع، وتكشف عن تكوينه الثقافي, بهذه الفكرة يكون الربط بين هذا التعريف والوظيفة التعبيرية .