سنحاور في هذه الدراسة مقالة الدكتور طه حسين الموسومة بـ " البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر" التي جاءت تمهيدا لتحقيق كتاب "نقد النثر" وسنحاول عرض فكرته ونقدها وبيان المنهج الذي يسير عليه في النظر إلى التراث .
نشرت الجامعة المصرية كتاب "نقد النثر" وطبع بمطبعة دار الكتب في القاهرة سنة 1351هـ/ 1933م بتحقيق طه حسين وعبد الحميد العبادي , وقد كان ينسب لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي المتوفى سنة 337هـ, إلا أنه اتضح فيما بعد أنه كتاب "البرهان في وجوه البيان" لأبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب , حققه وقدمه حفني محمد شرف , وتولت مكتبة الشباب في القاهرة طباعته ونشره عام 1969م .
وسنحاول تقسيم هذه الدراسة إلى ثلاث محاور رئيسية هي :
1/ المنهج الذي اختطه طه حسين في دراساته للإرث الأدبي والبلاغي العربي عموما , وهذه المقالة خصوصا .
2/ موقف طه حسين من البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر .
3/ نقد ومساءلة هذا الموقف .
أولا/ المنهج الذي اختطه طه حسين في دراساته للإرث الأدبي والبلاغي العربي عموما , وهذه المقالة خصوصا .
لا يمكن أن ندرس هذه المقالة ونحاورها بصورة منفردة خارج إطار التصور العقلي الطاهائي الكلي, ولو فعلنا ذلك حتما سنصل بلا أدنى ريب إلى نتائج غير دقيقة , ما الحل إذن ؟
ولكي نجد حلا لهذا الإشكال المعرفي لابد لنا ونحن نتحدث عن المنهج أن نضع هذه المقالة في مكانها الصحيح من نتاج الدكتور طه حسين النقدي و الفكري , ولكي نقف عن قرب على موقفه من البيان العربي لابد لنا من معرفة منهجه الذي كان يرتسمه في مقاربته للتراث العربي الأدبي والفكري .
بالرجوع إلى كتاب طه حسين الموسوم بـ "في الشعر الجاهلي" الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية حين نشر , نجد أن طه حسين يصرح بمنهجه في مقاربة الشعر الجاهلي ودراسته فيقول : "أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث . والناس جميعا أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء يعلمه من قبل , وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاماً , والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر, قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثراً , وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا, وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم، والفنانين في فنونهم, وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث"[1].
إذن هذا هو المنهج الذي سار عليه طه حسين في دراسته للأدب الجاهلي, منهج ديكارت الذي يقوم على الشك والتجرد من كل التصورات الذهنية والأفكار العالقة في الوعي الجمعي عن التراث العربي عموما والأدب الجاهلي على وجه الخصوص, لكن علينا أن نتساءل : ألم يُسبق طه حسين وديكارت إلى هذا المنهج ؟
وإجابة على هذا السؤال نقول إن العرب القدماء قد سبقوا إلى تطبيق منهج الشك على الشعر الجاهلي في باكورة التأليف عند العرب , ونجد ذلك على سبيل المثال مبثوثا في كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي حينما أثار قضية الإنتحال في الشعر الجاهلي وذكر أسبابها, ويقول ابن سلام في ذلك :" فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائها وما ذهب من ذكر وقائعهم, وكان قوم قد قلت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسن شعرائهم ثم كان الرواة بعدُ فزادوا في الأشعار"[2] .
إذن ما جاء به طه حسين ليس بجديد أو مبتدع، وقد سُبق إليه, لكن ما سبب الضجة الكبيرة التي أثارها منهج طه حسين الديكارتي، إذا كان مقلدا ومسبوقا إلى ذلك ؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول إن الأقلام التي انبرت للرد على طه حسين لم تنتقد المنهج كمنهج، لكنها هاجمت ثورة طه حسين وتمرده على مقدسات الأمة وتاريخها وهويتها الثقافية، يقول طه حسين في الكتاب السالف ذكره : "يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد الدين، يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلّا مناهج البحث العلمي الصحيح"[3]
ومن خلال ما تقدم نستطيع القول أن وجه الجدة عند طه حسين هو محاولة مباشرة التراث ودراسته ومحاورته وإخضاعه لشروط البحث العلمي، بشرط أن يتم نزع ثوب القداسة عنه، والتحرر منه, والتمرد على مقدسات الأمة وهويتها الثقافية والفكرية، وهذا هو مكمن الخلل في منهجه، وهو الذي حفز الكثير من الأقلام، فانبرت للرد عليه .
وبعد هذا العرض نخلص إلى أن المنهج الذي اختطه طه حسين في مقالته التي بين أيدينا عن البيان العربي المنشورة في عام 1930م ما هو إلّا امتداد لذلك المنهج الطاهائي الشكي الذي سار عليه في كتابه الذي أشرنا إليه سابقا المنشور في عام 1926م. ذلك المنهج القائم على الشك في أصالة البيان العربي خصوصا، والثقافة العربية عموما .
ثانيا/ البيان العربي عند طه حسين بين الاتباع والابتداع
بعد أن تبينا منهج طه حسين في دراسته للتراث العربي، وجب علينا الآن أن نبين موقفه من البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر. وليس من الصعوبة بمكان أن نعثر على موقف طه حسين من البيان العربي في هذه المقالة، وذلك أن المقالة في حقيقة الأمر تتمحور في أساسها على إثبات تأثر البيان العربي بالثقافة الهيلينية، ولذا لا غرابة أن نجد طه حسين يصرح بهذا الموقف غير مرة، ويرى أن "القول بأن هذا البيان عربي بحت، قول مبالغ فيه، لأنه لا نزاع في أن الكتاب والمتكلمين وجلهم من الأعاجم قد ساهموا فيه، كما أن القول بأنه أعجمي بحت وفق بينه وبين اللغة العربية، كما وفق من قبل بين البيان اليوناني واللغة اللاتينية . قول لا يستقيم"[4] ونجده يقول في موضع آخر:" لقد أثرت الثقافة الهيلينية في الأدب العربي عن طريق غير مباشر بتأثيرها أولا على متكلمي المعتزلة الذين كانوا جهابذة الفصاحة العربية غير مدافعين، والذين كانوا بتضلعهم من الفلسفة اليونانية، مؤسسي البيان العربي حقا"[5] .
ومما تقدم نستطيع الجزم بموقف طه حسين الذي يرى بأن البيان العربي قد تأثر بشكل مباشر وغير مباشر بالثقافة الهيلينية .
ثالثا/ نقد ومساءلة هذا الموقف
- المقالة جد مختصرة وجد موجزة بحيث لا يتلاءم حجمها وحجم الموضوع الضخم الذي تدرسه .
- أليس من حقنا أن نتساءل عن سبب القول بتأثر البيان العربي بالثقافة الهيلينية ؟ !!
- معلوم أن القرآن الكريم هو الأساس المتين والمنبع الرصين الذي بني عليه البيان العربي، فمن غير المقبول عقلا أن ينتظر العرب قرونا طوال لتأتي الثقافة الهيلينية وتعلمهم بيانهم وحرفتهم التي برعوا فيها .
- هل تشكَلَ البيان العربي قبل أن يعرف العرب ترجمات كتب أرسطو وبخاصة كتاب الخطابة وفن الشعر؟
- يقع طه حسين في تناقض صارخ حين يقرر أن المعتزلة هم من أسسوا البيان العربي، لكن لا يستطيع أن يقطع بأنهم كانوا مطلعين على البيان اليوناني لعهدهم، فكيف يجزم بالتأثر، ولا يجزم باطلاعهم على الثقافة الهيلينية .
- لم يمثل طه حسين على الأثر البياني اليوناني في شعر أبي تمام، وما ذكره من خصائص في شعره لا تعدو كونها خصائص عامة يمكن أن تنطبق على شعر أبي نواس ومسلم بن الوليد وابن المعتز . وكذا لم يمثل على تأثر عبد الحميد الكاتب بالثقافة الهيلينية في كتابته .
- يشير طه حسين إلى تأثير كتابي الخطابة وفن الشعر الأرسطيين في الفكر العربي عموما والفلسفي خصوصا، ولا شك أن أثرهما واضح على الفلاسفة المسلمين ولا يخفى على ذي نظر، وهذا التأثير ليس مشكلة المقالة، وأرى أن البحث قد انحرف عن هدفه الرئيس الذي هو إثبات تأثر البيان العربي بالثقافة الهيلينية إلى هدف آخر وهو إثبات المثبت وتوضيح الموضح والتدليل على ما هو مستقر في الأذهان ومستغن عن الدليل، وذلك أن من الأمور البدهية القول بتأثر الفلاسفة المسلمين بخطابة أرسطو وشعره .
المراجع:
- في الشعر الجاهلي, طه حسين, دار المعارف للطباعة والنشر, تونس.
- طبقات فحول الشعراء, محمد بن سلام الجمحي, دراسة وتحقيق: طه أحمد إبراهيم, دار الكتب العلمية, بيروت, 2001.
- كتاب نقد النثر, لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي, تحقيق: طه حسين, وعبد الحميد العبادي, دار الكتب العلمية, بيروت, 1980.
1- في الشعر الجاهلي, طه حسين, دار المعارف للطباعة والنشر, تونس ص23
2- طبقات فحول الشعراء, محمد بن سلام الجمحي, دراسة وتحقيق: طه أحمد إبراهيم, دار الكتب العلمية, بيروت, 2001, ص39.
4- كتاب نقد النثر, لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي, تحقيق: طه حسين, وعبد الحميد العبادي, دار الكتب العلمية, بيروت, 1980, ص7