في
يوم كنت على قمة جبل متين، اتأبط كلاشنكوفي ورصاصاتي واحلم بالثورة، ولطالما حلمت بالثورة، ومازلت الى الان احلم بلهيبها وبريقها وبنورها، الذي سوف يطغي على الاحياء المبنية من القصدير!، فسرتْ في جسدي قشعريرة من نوع جديد!، قشعريرة انبأتني بأن الحقيقة بأكملها تختفي خلف تلك التضاريس الموحشة والموغلة في الغموض..
مددت ببصري الى اسفل السفح، فكان نهر الزاب في حالة غضب شديد، تيار صاخب وجارف، وله القدرة على كنس الاوهام التي تسكن في رأسي..
في تلك اللحظة، التي لاقيمة لها من الناحية الزمنية، لكنها كانت ثمينة، لانها اشعرتني بالطمانينة والسعادة الداخلية، تخيلت غضب الجماهير المدوّي وهي تزحف على اوكار الطاغية، كما يزحف تيار الزاب العظيم هذا، وتقتلع من طريقها كل حصون القمع والشر والبربرية..
تماديت في التخيل كثيرا، فشاهدت الانصار الشيوعيين تحملهم العربات المكشوفة، وترفعهم اكتاف الجماهير وهم يغنون ( بغداد شمعة وماهوا ايطفيها )، ويتبعهم فرح الاطفال وهلاهل الأمهات وعيون العاشقات الضاحكة..
ولكن عندما تلاشى ذلك النهار، وهبطت العتمة على جبل متين، وخفت ضوء شمعة بغداد، التي توسدت القلق المدمرانذاك، سمعت اطلاق نار بعيد، وبدأت قذائف مدفعية النظام تسقط بالقرب من صخرتي، فتبدد ذلك الحلم، واختفت صورة تيار الجماهير الغاضبة وهي تزحف على قصور المجون، وبقيت انظر الى تيار الزاب الذي مازال صاخبا ووحيدا.
تذكرت في هذا الوقت بالذات، تلك القملة اللعوب الشرسة مصاصة الدماء!، التي تحدثت عن جريمتها في احدى القصص السابقة، والتي اصرّتْ على التناسل في جلد راسي، ورغم انها عديمة الفائدة وفاقدة الحياء، ورغم انها شديدة الخبث والمكر، لكني استطعت ان ارمي بها دون شفقة الى مستنقع الهستيريا والموت!..
وهذا هو الذي جلب الى روحي مقدارا من التفاؤل، ودفعني الى ان اتخذ قرارا بالذهاب لمشاهدة مسرحية ( يوليوس قيصر )!، فقادني شكسبير لأتعرف على شخصية ( كاسيوس )، ذلك الشاب النحيل المنهمك بالقراءة والتأمل، ومنه تعلمت، بأن كل الطغاة، ابتداءا من تلك القملة الغبية! ومرورا بنيرون وانتهاءا بغوبلز بغداد!، يكرهون الفكر المتحرر والعقل المضاء!، وان مصيرهم حتما سيكون المستنقع ذاته..
ولكني في ذلك الحين، لم افكرولم يخطر ببالي ابدا، بأن العراق سيدخل في زمن، اسمه زمن الغنائم والمحاصصات، تحكم وتتصارع فيه الطوائف والعشائر في سباق مرثوني عجيب!..
ولم اتخيل بأن البديل لنظام البطش الصدامي، الذي بُني على اساس فكرة القتل والحرب، سيكون غيراولئك الذين تعلموا من العظيم ( جيتة ) إلتماس السعادة وعذوبة الحياة!، اولئك الذين لم ترتبك نفوسهم واذهانهم وهم يعملون من اجل السمو بالوطن والناس الى مراحل عالية من الجمال والمحبة وخصوبة النفوس، ومن اجل وطن تملؤه اضواء الفن والثقافة والضحك..
ولم يخطر ببالي بأن الذين يضربون الطاولات بقبضات قوية، هم الذين ستعلوا اسماؤهم ويرتفع شأنهم فيعود الدهر بنا الى زمن الاساطير.. زمن التمزق الاخلاقي .. زمن الدراما الحزينة، التي لايتحملها القلب ولايتسع لها الذهن..
لقد عاد بنا الاولياء الى النفق المظلم، خوفا علينا كما قالوا، من غضب الآلهة ومن وحشية السعلوة!، فوقعنا في متاهة ابو طبر وابو درع والتمساح وحية سيد ادخيل!!..
وتوالت المفاجآت يوما بعد يوم، وازداد الاحساس بالتعاسة اكثر واكثر، وجفت المنابع الحيوية، وتراجعت الديناميكية عند المواطن البسيط الطامح الى الحياة الحرة والكريمة، ذلك المواطن الذي يبحث بفطرته الانسانية وتلقائيته السليمة عن مأوى تجتمع فيه عناصرالحياة الضرورية، حتى بات يشعر بأن تلك هي لحظة الصدمة، التي قادتنا الى الافلاس المادي والمعنوي، تلك الصدمة التي اخذت من المجنون الجميل المليء بالاحلام كافكا حبيبته وزمنه!..

