في مضارب بوذا وما حولها-2

2014-07-11
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/0e18c748-bde3-45ba-8b87-e81b26f6c4bd.jpeg
 قفلنا راجعين من حيث أتينا، هدفنا كهوف إيلورا Ellora caves  ويبدو الأسم ذا وقع جميل على الأذن، فهل سيكون الأسم مطابقا للرسم؟ هذا ما سنراه بعد ساعة ونصف الساعة إذ تبعد هذه الكهوف قرابة 30 كم الى الشمال الغربي من مدينة آرانغ آباد حيث نقيم، أخبرْنا سائقَنا آشيش أن بوسعه بعد زيارة الكهوف أن يأخذنا الى أحد الأسواق للتسوق ثم يوصلنا الى فندقنا ويصبح عندها في حِلّ عنا، فرِح جدا فراح ينهب الأرض نهبا لتوفير الوقت!
خلال هذا الوقت تبادلنا أحاديثا عن زيارتنا ورحنا نراجع أهم ما سنتوقف عنده من آثار في ما اقتنينا من الكتب السياحية، التي ترافقنا، والديمقراطية ضرورية جدا لمن يروم السفرَ مجموعةً، لأن السفر محّك حقيقي لأفراد الجماعة وعلاقتهم مع بعضهم، كنا غاية في الإنسجام وروح التفاهم، وهدف السفرة ثقافي قبل أن يكون ترفيهيا. كانت جرعات الشاي الأسود تارة والقهوة السوداء مع "الكليجة" العراقية خير معين لنا في إزالة التعب، ولعله من المفيد جدا القول بأن العثور على قهوة ساخنة سوداء أو شاي أسود ساخن هو ضرب يُداني المحالَ في الهند! فكلاهما يُقدَم مخلوطا بالحليب والسكر، لذا من الحصافة جَلْبُ غلاية كهربائية وثرموس، ولا بأس أيضا من الإتيان بالقهوة سريعة الذوبان والشاي الأسود، ولا ضيْر في أن يصُّحَ المثلُ العربي القديم: كجالِب التمر الى هَجَر، وهجر هي البحرين المشهورة بالتمر.. من النصائح الضرورية التي تركز عليها كتب السياحة، هي القاعدة الذهبية: كُلْ حيث يكون مزدَحمٌ للطاعمين حتى لو كان في عربات تقدم الطعام في الساحات، ولا تأكل في المطاعم الفارغة حتى وإن بدت أنيقة! كُلِ المطبوخ جيدا وتحاشَ النيىء –إلا بعد الغسل والتقشير- والشائع في الهند هو الأرز مع الدال (مرقة العدس) ، والدال بالنسبة للهند كالفول لدى المصريين! في المساء يمكن تناول الغذاء الجيد في المطاعم الراقية بأسعار معقولة، قناني الماء في الهند رخيصة جدا لكن المشكلة تكمن في الغش حيث تفرغ القناني من الماء  أحيانا وتعبأ بماء عادي - لذا اكبس الفارغ منها حتى لا يعاد ملؤها- وهذا ما سبب لنا مغصا شكا منه الجميع ويصحبه في الغالب نوبات إسهال لا يُعلم متى تنتاب صاحبها ربما في معبد أو متحف أو في وقت الاستجمام مسببة هلعا وحرجا! والتطعيم المسبق ضروري وأهمه ضد التايفوئيد...
ريثما نصل الى هدفنا، أريد أن أشير الى اهتمام الهنود بالسياحة الداخية، فرغم أن الشعب الهندي من الشعوب الفقيرة، والأمية بين فقرائه مازالت متفشية، بيد أنهم يعشقون السياحة، فرغم رحلاتي المتكررة لبلدان عديدة في العالم إلا أنني لم أر شعبا ينفق بسخاء في سبيل معرفة معالم بلده كما الشعب الهندي. بإمكان السائح أن يزور أية مدينة ليشترك بسفرات داخلية في المدينة أو لمدن أخرى، تشمل أهم المعالم من معابد هندوسية واسلامية، وقلاع تأريخية ومتنزهات ومتاحف ألخ لقاء مبالغ معقولة، كما أن من فوائد هذه السفرات أنها تتيح معرفة أخلاق وشمائل الشعب الهندي عن كثب. الهنود رغم فقرهم كرماء، اجتماعيون، مؤدبون، متسامحون وفضوليون جدا، فلطالما يبادرك الهندي بالسؤال مبتسما: ما اسمك الكريم؟ من أي بلد لو تفضلتم...والمثقفون الهنود مثقفون بكل معنى الكلمة، والحديث معهم ممتع، وللهنود مواسم أعراس، ومن عاداتهم أنهم يحجزون اوتيلات كاملة لضيوفهم ويولمون بسخاء، وتلمس الغناء والرقص في الشوارع والساحات، والزفاف عندهم بطابور طويل من السيارات المزوقة تسبب إشغالا للمرور، والحناء والبخور والزهور لها حضور كثيف، وكثيرا ما يُدعى السائحون لأعراسهم وهذا ما حصل لنا لأكثر من مرة!
لاحت لنا تلال متموجة أشار إليها السائق واستدار الى طريق ضيق لبلوغ تخومها، بدت كواحة خلفها نهر، والمنظر جميل، رسمه الفنان الإنكليزي توماس دانييل Thomas Daniell عام 1803م في لوحة تعد إحدى روائعه، وهذا الفنان زار الهند في مطلع القرن التاسع عشر، وذهل بها فطابت له مقاما حيث بقي يجول في مرابعها عشر سنوات مأخوذا بما رأى وصور العديد من معالمها من معابد ومساجد ومناظر طبيعية، بلوحات رائعة تُعَد وثائقَ تأريخية ناهيك عن قيمها الفنية، توفي عام 1840م عن واحد وتسعين عاما...
تكشفت المنطقة عن موقع جميل حقا يجمع بين الجمال والجلال تَحفُّ به التلال الصخرية وقليل من الأشجار، وقد قطعت الصخور لبناء المعابد قطعا، وتشكل من هذه الصخور أبنية وأعمدة وتماثيل ومنحوتات مختلفة غاية في الإبداع وأمام كل معبد ساحة واسعة تسمح للحجيج بممارسة طقوسهم واحتفالاتهم... الرسوم للأجانب هي 5 دولارت ، لا بد من الإشارة الى أن السائحين الأجانب قليلون نسبيا وأكثرهم من المهتمين بالجوانب الآثارية والثقافية، وتاريخ الأديان. يشكل اليابانيون والكوريون والصينيون الأكثرية، والأقل هم الأوربيون والأمريكيون...
ظلت هذه المعابد الأربعة والثلاثون مسكونة لخمسة قرون. منها 12 اثنا عشر بوذيا تحمل الأرقام 1-12 وقد بنيت بين 600م-800م، والهندوسية 17 سبعة عشر تحمل الأرقام 13-29 وقد بنيت 600م-1900م، والباقي الجاينية عددها 5 خمسة تحمل الأرقام 30- 34 وقد بنيت 800م-900م، ويرى المرؤ أن فترة بنائها متقاربة مما يدل على روح التسامح الديني، كما يُفهم أن الفترة شهدت غروبا للبوذية وإعادة سيادة الهندوسية وبزوغ الجايينية...الأرقام وضعت حسب االتسلسل الزمني، لكن وفق الدراسات الحديثة تغيرت معايير القدم فالرقم 6 هو أقدم المعابد البوذية طرا، بدل الرقم واحد...ولا بد من ذكر أن كهوف ايلورا أصبحت من متبنيات منظمة التراث العالمي World Heritage Sites في اجتماعها السابع عام 1984 .
كل الكهوف الجنوبية البوذية تحتوي على صوامع من نوع فيهارا متعددة الطوابق تصل الى ثلاثة، عدا الكهف رقم10 وهو من نوع جايتي اي الحجرة المخروطية، وذلك لأن المعابد الأقدم تكون بسيطة بينما المتأخر منه وهي 5و11و12 تكون أكثر تعقيدا وذلك لأنها في تنافس مع المعابد الهندوسية التي تميل الى الضخامة والأبهة! فالمعبد رقم 5 هو أكبر المعابد البوذية يبلغ طوله36م وعرضه 18م ويحتوي على قاعة كبيرة، بينما الكهف 11 يتألف من طابقين وثالث تحت أرضي، ولم يكتشف إلا في عام 1876م ، ولا يختلف الأمر كثيرا عن الكهف 12.
تعكس الملامح المعمارية للمعابد البوذية والهندوسية، ومحتوياتها من التماثيل والنصوص تجسيد الفلسفة التانترية Tantric  والمتمثلة بتجسيد طقوس العبادة التي تنص أن الكون ما هو إلا مظهر عابر من من حقيقة أهم وأعمق هي الحقيقة المطلقة، فالفلسفة التانتريه Tantraهي في جوهرها التخلص من النواقص لبلوغ الكمال، فمن هذه الطقوس الرياضة الروحية لتجديد وتنمية الطاقة الداخلية، والرقص والغناء ، وكذلك منها الطقوس السرية في ولائم الخاصة لتقديم الطعام المقدس وممارسة الجنس الذي تأتي قدسيته من كونه طاقة الإخصاب، في حين جعلت الإفراغ والتبول والتقيؤ من الممارسات الدونية، كل هذه الممارسات مجسدة في المعابد البوذية (يقابل التاترا في البوذية مبدأ (Vajrayana والهندوسية، ولم تعد هذه الفلسفة حية في الديانتين، ولكن مازال تأثيراتها قوية حتى في المعتقدات الشعبية، مثل تجسيد العضو الذكري من الصخر (في تايلندا والصين غالبا من الخشب ويوضع في خزانات زجاجية في البيوت) كرمز للإله شيفا والأنثوي لزوجته سيتا...الخ، ولا نود الإطالة في هذا الموضوع لأنه موضوع مستقل بذاته.
حجر الزاوية في هذه الكهوف هو هو رقم 16 أو Kailasa temple الذي يمثل معبد الإله شيفا ويعتبر أكبر منحوت  صخري monolithic في العالم فهو مذهل في عمارته وسعته وحجم التماثيل فيه للورد شيفا كبيرة  ويحتوي على قاعة واسعة جدا وهو أول ما يواجه الداخل "للمجمع" من اليمين وهو يحظى بأكبر عدد من الزائرين. وفي ساحة هذا المعبد يقام المهرجان السنوي للرقص والموسيقى Ellora Dance & Music Festival في شهر كانون الأول/ديسمبر من كل عام.
والكهوف الجاينية  The  Jain Cavesوتعود هذه الخمسة معابد الى القرنين التاسع والعاشر وهي تعكس الأبعاد الفلسفية والتراثية لهذه النِحلة المثالية و"المتطرفة" إنسانيا فهي نباتية خالصة وشعارها اللاعنف مع كل كائن حي (راجع سلسلة تأثيرات هندوبوذية في الصوفية لكاتب هذه السطور على عدة مواقع) تحمل معابدها الأرقام 30 الى 34، فهي تحمل تجسيدات هذه الفلسف ومنحوتاتها وتحتوي على تمماثيل عدة لمؤسس هذه الفلسفة مها فيرا و كبار معلميهم..نتوقف هنا ولنا عودة في مضارب أخرى لبوذا وما حولها..
kalidjawadkalid@hotmail.com 





 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved