في الفاتح من مارس 2003م نشر د. محمد كنون الحسني بحثا على صفحات " العلم الثقافي " ( الملحق الثقافي لجريدة العلم ) بعنوان " مواقف الأستاذ عبد الله كنون من بعض قضايا الإسلام والمسلمين من خلال بعض الوثائق والرسائل ". ولقد لفتني في ذلك البحث اعتماد صاحبه على ما خلفه العلامة عبد الله كنون من رسائل وصلته من بعض العلماء والزعماء السياسيين.
وكان لتكرار الإشارة من د. كنون - في معرض الاستدلال - إلى كثير من تلك الرسائل دور حاسم في إشعال فتيل الرغبة في دواخلي للاطلاع على ما توافر من رسائل في مكتبة صاحب " النبوغ المغربي في الأدب العربي ".
وفي العام 2009م أقدمت مؤسسة عبد الله كنون للثقافة والبحث العلمي على إصدار كتاب تحت عنوان " في قلب الحركة الوطنية " متضمنا مجموعة رسائل موجهة إلى الأستاذ عبد الله كنون من زعماء الحركة الوطنية ومسيريها، وهي رسائل أشرف على تخريجها والتعليق عليها فضيلة الأستاذ الباحث الرصين عبد الصمد العشاب.
يتضمن هذا العمل الممتد على 206 صفحة أكثر من مائة رسالة وجهها إلى صاحب " النبوغ " كثير من المجاهدين والمناضلين ممن كانت لهم يد في الجهاد وفي دعم الحركات التحررية، كالأمير شكيب أرسلان، وعلال الفاسي، ومحمد بن الحسن الوزاني، وعبد الخالق الطريس، ومحمد داود، وإبراهيم الوزاني، وأبي بكر القادري وغيرهم.
ويشكل هذا الكتاب القيم حلقة في سلسلة رسائل عديدة « تقدم العلامة عبد الله كنون في فكر الآخرين من أجيال مختلفة ورجالات فكر من العالمين العربي والإسلامي » ( ص 03 )، كما تمثل وثائق تؤرخ لبعض الأحداث والمخاضات في مرحلة من تاريخ المغرب على وجه الخصوص.
ومن الرائع حقا أن يخرج قارئ هذه الرسائل التي كتبها أزيد من ثلاثين شخصا، بوحدة رأيهم جميعا في شخص العالم الجليل صاحب " النبوغ "، رغم ما كان بينهم من الاختلاف في الأفكار والتوجهات ومن الخلافات والصراعات في بعض الأحيان .. ولعل في ذلك ما يشير إلى حقيقة ساطعة مفادها أن سيدي عبد الله كنون قد ظل دوما رجل العلم والأدب والأخلاق الرفيعة الذي يحظى بتقدير المختلفين والمتصارعين وأصحاب المذاهب والأحزاب المتباينة. ويبدو ذلك جليا من خلال التحليات الواردة في مطالع الرسائل حيث لا يُنادى إلا ب " العلامة "، و" الحجة المحقق "، و" سراج الأدباء "، و" الفاضل المحترم "، و" الأخ العزيز "، و" المجاهد الكبير " ...الخ.
على أن قارئ الكتاب يلمس بوضوح أن الأستاذ العشاب قد بذل فيه جهدا كبيرا مستنيرا باديا في نواح عدة :
- أولا : حفظه للرسائل، وجمعها، ونشرها.
- ثانيا : عنايته بترتيبها وتصنيفها حسب المرسلين، إذ نقرأ مجموع الرسائل الموجهة إلى العلامة كنون من لدن الأمير شكيب أرسلان، ثم نجد رسائل علال الفاسي، ثم محمد بن الحسن الوزاني، فعبد الخالق الطريس، فمحمد داود، وهكذا.. وهو ترتيب جيد يساعد القارئ على تمثل طبيعة العلاقة بين المرسلين والمرسَل إليه.
ومما يحمد للأستاذ العشاب أنه رتب الرسائل ترتيبا كرونولوجيا حسب تواريخ كتابتها، وعلى سبيل المثال فإننا لا نقرأ رسائل الأمير شكيب أرسلان مجموعة فقط، بل ونجدها متسلسلة كالآتي :
- الرسالة الأولى : 04 مارس 1941 ( ص 04 / 05 ).
- الرسالة الثانية : 03 فبراير 1942 ( ص06 / 07).
- الرسالة الثالثة : 26 يونيو 1942 ( ص 08 / 09).
- الرسالة الرابعة : 05 فبراير 1944 ( ص 10 / 11).
- الرسالة الخامسة : 1945 (ص 12).
وبدهي أن هذا الترتيب ييسر سبيل االمقارنة بين هذه الرسائل من حيث الثابت فيها والمتحول في الموضوعات والخصائص الأسلوبية. وكم كنت أود أن يُلتزم هذا الترتيب في الرسائل كلها !!
- ثالثا : كتابته تقديما لكل رسالة يبين موضوعها، ومناسبتها، وتاريخها في بعض الأحيان، ويعد ذلك كله دليلا مساعدا على استيضاح المضامين قبل القراءة.
- رابعا : وضعه هوامشَ على بعض الرسائل متضمنة ما يلزم من الشروح، والتوضيحات، والتراجم الموجزة للرجال والأعلام، وهو أمر في غاية الأهمية، لا سيما لمن لم يعايش الأحداث، أو لمن لا اطلاع له على محطات من تاريخ الحركة الوطنية ورجالاتها في المغرب.
وبالإضافة إلى هذا كله فإن هناك جوانب أخرى متميزة تبرز مجهود الأستاذ العشاب في إخراج هذا الكتاب القيم، لا تتسع هذه الورقة المختصرة لذكرها مجتمعة، لأنها ورقة لا تخرج عن نطاق التحية والشكر المستحق لمؤسسة عبد الله كنون عموما، وللباحث عبد الصمد العشاب خصوصا على ما بذله من جهد ووقت في سبيل إخراج هذه المراسلات إلى دنيا التداول والنشر.