في المجموعة القصصية "ماذا تَحْكي أيها البحر...؟" لفاطمة الزهراء المرابط (1)
تُقدِّمُ هذه المجموعةُ القصصيّة قضايا مُتَعدِّدَةً مُتَنوِّعة، وذلكَ ما يُساعدُ على تَقْديمِ قِراءآتٍ مُتَعدِّدةٍ في هذا العَمَلِ القَصَصيّ .
ولقَدِ اخْتَرتُ أن أتحدثَ، في هذه المقالة، عن قَضيَّةٍ واحدةٍ من قَضايا المجموعة هيَ قضيةُ المرأة، وركّزتُ حَديثي عن قضيةِ المرأة في جِراحِها وسُبُلِ علاجِها، ساعِياً، بذلك، للإجابَةِ عنِ الأَسْئلَة الآتية : ما نَوْعُ المعاناةِ التي تَتَقلَّبُ فيها أَغْلَبُ النِّساءِ داخلَ المجموعة ؟ ومَنِ المسْؤولُ عن هذهِ المعاناة ؟ وكَيْفَ واجَهَتِ المجموعةُ القصَصيّةُ هذه المعاناة ؟ أو فَلْنَقُلْ : ما السُّبُلُ التي تَسْلُكُها نساءُ المجموعةِ لتَضْميدِ جراحِهنَّ ؟
1- جراح المرأة
إنّ قراءةَ المجموعةِ القصصيّةِ قِراءةً مُتَتبِّعةً للمَرْأةِ داخلَ جُلِّ النُّصوص تَقُودُنا إلى اسْتِنْتاجٍ مفادُه أنّ أغلبَ نِساءِ المجْمُوعَةِ يَشْتَركْنَ في المعاناةِ النَّفْسيَّةِ، وهيَ مُعاناةٌ نابِعَةٌ من عَدَمِ إحْساسِ الطَّرَفِ الآخَرِ، الشَّريكِ للمَرْأة في عَلاقَةِ زَواجٍ أو "عَلاقَةِ حُبّ"- عَدَمِ إحْساسِه بما يَعْتَمِلُ في أَعْماقِ المرأة وعَدَمِ مُبالاتِه باحْتِياجاتها النَّفْسيَّة؛ وذلكَ للتَّرْبية الّتي تَلقَّاها داخلَ مُجْتمَعٍ ذُكوريٍّ يَنْظُرُ للمرأة نَظْرةً دُونِيَّةً تَعُدُّها أقلَّ قيمةً منَ الرَّجُل وأَدْنى مِنْهُ مَكانَةً .
ومنذُ أولِ نُصوصِ المجموعةِ، وهوَ النَّصُّ الْمُسَمّى "أنتِ القَصيدَة"، يَقِفُ القارئُ على ساردة حَزينَةٍ تَبْكي، بَعْدَما أدْركتْ أنّ الكلامَ الجميلَ الَّذي طالما سَمِعَتْهُ من شاعرٍ، لم يَكُنْ سوى تمارينَ مِنْهُ لتَأْليفِ ديوانهِ الجَديدِ، في حين ظنَّتْ هيَ أنَّ كَلِماتِه الجَميلةَ لها كانتْ صادقةً وصادرةً عن حُبٍّ حَقيقيّ .
ويحْضُرُ هذا الإحْساسُ بالحُزْنِ والوَحْدَةِ في قِصّة "أيّام الباكور" حَيْثُ نجدُ السّاردةَ تُعاني تَكْرارَ وَضْعٍ سَيّءٍ، يَتَمثَّلُ في جُلوسِها كلَّ يَوْمٍ وَحيدةً داخلَ البَيْتِ، تَنْتَظِرُ عودةَ زَوْجِها، بَعْدَ أنْ يَقْضيَ ساعاتٍ «بِحانَةٍ صاخِبَةٍ يَتَجرّعُ كُؤوسَ الخَمْرِ [و] يَرْقُصَ على أَنْغامِ السُّكارى»(2) .
والوَحْدةُ نَفْسُها تَتَجرَّعُها السّاردةُ في قِصّة "شَمْعَة" حيثُ «لا أحدَ يُؤْنِسُ وَحْدتَها، سِوى الصُّوَرِ الْمُتَراقِصَةِ على صَفْحَةِ الفايْس بوك...»(3) .
ولا يختلفُ الأمرُ في قصّة "أَبْوابٌ مَفْتوحَة" حيثُ تَـمْكُثُ كُلٌّ من الحاجَّتَيْنِ رحمة وزهيرو، وَحيدتَيْن داخلَ البَيْتِ، في حين يَقْضي زَوْجُ كُلٍّ مِنْهُما أوقاتاً مُمتدَّةً خارجَ المنزل، باحثاً عن مُتْعَةٍ فَرْديَّةٍ خالصَة .
أمّا في قصة "سَفَر" فإنّ السَّاردَةَ تُحاولُ تَكْسيرَ جِدارِ الوَحْدَةِ المعذِّبة، بأنْ تَخْتلِسَ لحظةً جَميلةً من جِسْمِ شابٍّ مَعَها في مَقْصُورَةِ القِطارِ، بَعْدَما اسْتَسْلَمَ للنَّوْم، لكنَّ تَحرُّكَ الشّابِّ وهو نائمٌ تحركاً مفاجِئاً أَفْسَدَ على المرأةِ مُحاوَلتَها وأَرْجَعَها إلى وَحْدَتِها وعذابها .
إنَّ وَحْدةَ الجَوِّ النَّفْسيِّ الَّذي تمرُّ فيه نساءُ أَغْلَبِ نُصوصِ المجموعة يَجِدُ تَفْسيرَه في النَّظْرَةِ المجتَمَعِيَّةِ لكُلٍّ منَ المرأة والرجل، وهيَ نَظْرةٌ لا تخرجُ عن نَظْرَةِ المجتَمَعاتِ الشَّرْقيَّةِ التي تَفْتَحُ أبوابَ التَّحرُّر أمامَ الذَّكَرِ وتُغْلِقُها أمامَ الأنثى، وتَرْفعُ في وَجْهِها علاماتِ المنْعِ والحَظْرِ، وذاكَ ما يَؤولُ بهذا الذَّكَر إلى عَدِّ الأُنْثى جُزْءاً من مَتاعِهِ ومُـمْتَلَكاتِه، يَسْتَمْتِعُ بها ولا يَتَساءَلُ عمّا لها من حُقوقٍ، مما يُضاعِفُ من قوة المعاناةِ في نَفْسِية المرأة، كما تَبيَّنا من خلال نُصوصِ المجموعة الَّتي تَقدَّمَتِ الإشارةُ إليها .
ولَعَلَّ السُّؤالَ الذي يَفْرِضُ نَفْسَهُ هنا هو السُّؤالُ عن السُّبُلِ الَّتي تَقْتَرحُها المجموعةُ القصصية لتَخْليصِ المرأةِ من أَجْواءِ الوَحْدَةِ والعُزْلَةِ والعَذابِ الْمُتَجدِّدِ أو للتَّخْفيفِ من ذلكَ على أقَلِّ تَقْدير .
2- أشكال المواجهة
تَلْجَأُ هذه المجموعةُ إلى أَكْثَرَ من سَبيلٍ لتَضْميدِ جِراحِ المرأة ،والتَّخْفيفِ من شِدَّةِ عَذابها . وتَتَوقَّفُ هذه المقالةُ عند سَبيلَيْنِ من تلكَ السُّبُلِ، هما السُّخْريةُ وصُحْبَةُ البَحْرِ .
2-1- السخرية
تُشكِّلُ السُّخْريةُ سلاحاً تُواجِهُ به المجموعةُ تَناقُضاتِ العَقْليَّةِ الذُّكوريّةِ داخلَ المجتَمَع . ومِنْ أَحْسَنْ ما يُجلّي مَلْمَحَ السُّخريةِ هذا، قِصّتان من قِصَص المجموعة هما "لَعْنَةٌ" و"أَبْوابٌ مَفْتوحَة"؛ ففي قصّة "لعنة" يمارسُ أحَدُ الشُّعَراءِ دَوْرَ الأُسْتاذيَّةِ والوصايَةِ على غَيْرِه من المشاركين في نَشاطٍ ثَقافيّ، إذْ لا يَكُفُّ عنِ انْتِقادِ كُلِّ مَنْ يَتَقدَّمُ لقراءَةِ نَصِّه الشِّعْريّ، وهيَ الانْتِقاداتُ الَّتي جَعَلتِ «الحَسْناءَ وراءَه تَتَبرَّمُ في صَمْتٍ، [و] تَرْتَجِفُ مِنِ انْتِقاداتِهِ القَاسِيَةِ»(4). لكنَّ المفاجَأةَ المضْحِكَةَ تَحْدثُ حينما يَتَقدَّمُ هُوَ لقراءَة نَصّه الشِّعْريّ؛ فقَدْ «صارَتِ الهاءُ ميماً، والثَّاءُ شيناً، وبَقِيَّةُ الحُروفِ تَتَضارَبُ مَعَ بَعْضِها»(5) وذاكَ ما وَلَّدَ مَوْجَةَ ضَحِكٍ داخلَ القاعة .
أما في قِصّة "أبواب مفتوحة" فتَنْشَأُ السُّخْريةُ من تَصْويرِ تَناقُضاتِ بَعْضِ الحُجَّاجِ داخلَ المجْتَمَع؛ فالحاجُّ ملّوك – مثلاً – «رَجُلٌ تَقِيٌّ وَرِعٌ، يُؤَدّي صَلواتِهِ الأرْبَعِ بانْتِظامٍ، يَدُهُ مَـمْدودَةٌ لكُلّ عابرِ سَبيلٍ (...) وعِنْدَما تَخِفُّ حَركَةُ الشَّارع، يحثُّ السَّيْر إلى الحانة ليَحْتَسيَ كُؤوسَ الخَمْرِ حَتّى مَطْلَعِ الفَجْر، ثم يَقْصِدُ الحاجّة ابْريْكَة ليُجَدّدَ شَبابَهُ فَوْقَ الأَجْسادِ السَّمْراءِ والبَيْضاءِ...»(6) تاركاً زَوْجتَه الحاجّة رحمة «تَنْتَظِرُ عَوْدَتَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ»(7)، ثم «يَترقَّبُ شَهْرَ رَمَضانَ ليُطْلِقَ العِنانَ لِلِحْيَتِهِ الخَشِنَةِ ويُواظِبَ على الصَّلاة والعبادةِ منذُ فاتِح رمضانَ»(8) .
إن قارئَ هاتَيْنِ القِصَّتين "لَعْنَةٌ" و"أبوابٌ مَفْتوحةٌ" يُلاحظُ أنهما تَبْتَغِيانِ تَحْقيقَ هَدَفٍ واحدٍ يتمثّل في مُحاولَةِ تَقْبيحِ العَقْلية الذُّكوريّة المتناقِضَة، سواءٌ أكانتْ ممثَّلةً في شاعرٍ مُثقَّفٍ - كما في قصة "لعنة" – أَمْ في شَخْصٍ مُسِنّ لم يَنَلْ حَظّا وافراً من التَّعْليم، كما في قصة "أبواب مفتوحة".
ومَعْلومٌ أنَّ تَقْبيحَ الذُّكورَةِ في القِصّتيْن يَسْتَلْزِمُ بالضَّرورَةِ تَحْسيناً للأُنوثَةِ، ويَنْطَوي على انْتِصارٍ للْمَرْأَةِ وتَضْميدٍ لجِراحِها، ولذلكَ نَجِدُ السَّاردَةَ في نهاية قصة "لعنة" «تَضْحَكُ بَيْنها وبين نَفْسِها وهيَ تُرَدّدُ : منْ يملكُ بَيْتاً من زُجاج لا يَرْمي الآخرينَ بالحَجَر»(9). ولذلكَ – أيضاً - نَجِدُ الحاجَّةَ رحمة تُطْلِقُ ضَحْكةً صَغيرةً تُبَدِّدُ صَمْتَ اللّيْلِ عِنْدَ لقائها بالحاجَّة زْهيرو وهُما على أُهْبَةِ الهُروبِ إلى مَكانٍ آخَرَ لا تَتَجرَّعانِ فيه كُؤوسَ المعاناةِ المتَجدِّدَةِ كُلَّ يَوْمٍ .
إنَّ هذا الضَّحِكَ السَّاخِرَ لهؤلاءِ النِّسْوَةِ ليسَ سِوى تَضْميدٍ مُؤقَّتٍ لجِراحِهِنَّ وخطوةٍ في مَسيرِ التَّخْفيفِ من العَذابِ الَّذي يَتَقلَّبْنَ فيه .
2-2- صُحْبَةُ البَحْر
يَحْضُرُ البحرُ في هذهِ المجموعة بوَصْفِهِ مَلْجأً تَلُوذُ به السَّاردةُ احْتِماءً من قَسْوَةِ المعاناةِ المتَجدِّدَةِ كُلَّ يَوْمٍ، ولْنَقْرأْ في بَيانِ ذلكَ هذهِ الاقْتِباساتِ المأْخُوذَةَ من بَعْض القِصَصِ :
- تقولُ الساردةُ في قِصّة "ضَباب" وهي تُشيرُ إلى البَحْر : «هذا هو صَديقي، أنظر ما أَحْلاهُ، يَسْتَقْبِلُني كلَّ صَباحٍ بصَوْتِه السَّاحِرِ وعِطْرِهِ الفَوّاح»(10) .
- ونقرأُ في قصة "عُبور" هذهِ الجُمْلةَ الَّتي تُخْبِرُ عنِ البَطَلَةِ بالقَوْل : «الوَحْدَةُ تَقودُها إلى أَحْضانِ البَحْرِ»(11) .
- وفي قصة "أَمْواج" تُقَرّرُ السَّاردةُ التَّمرُّدَ على أيّامها البائِسَةِ فتَقْصِدُ البحرَ وهُناكَ نجدُها تَقولُ : «أمواجُ البَحْر تَتَراجَعُ وتَتَقدَّمُ نَحْوي مُخلِّفَةً رُطوبَةً مُنْعِشَةً، تخلَّصتُ منَ الحِذاءِ الصَّيْفيّ، حَبّاتُ الرَّمْل المبلَّلةُ تُدَغْدِغُ أسْفلَ قَدَميَّ، والشَّمْسُ السّاطعَةُ تُسَلّطُ أشِعَّتها الحارّةَ على بَشَرتي البيضاء، تُحْرقُني تُخلّفُ احْمِراراً لافِتاً على وَجْهي المتَواري وراءَ الأَبْوابِ المغْلَقَةِ(12) .
- ونَقْرأُ في قصة "ماذا تحكي أيها البحر...؟" : «البحرُ كانَ هادئاً، يَلْمَعُ من بَعيد تحتَ أشعّةِ الشّمْس، حَرَّرْتُ قَدَميَّ من الحِذاءِ الرّياضيِّ لِتَغُوصا بين حَبّاتِ الرِّمالِ الدَّافئَةِ»(13) .
يتَّضِحُ من قراءَةِ المقاطع المتَقدِّمةِ أنّ البحرَ في هذهِ المجْمُوعةِ صَديقٌ هادئٌ، حُلْوٌ، ذُو صَوْتٍ ساحِر وعِطْرٍ فوّاح، وهو ذُو أَحْضانٍ، ومَجالٌ للتَّحرُّر من الأبواب والأماكن المغْلَقَة، إنه مُعادِلٌ للدِّفْءِ والحَنانِ والرَّحْمَةِ التي افْتَقَدتْها نساءُ المجموعة في عَلاقاتِهنَّ بأَزْواجِهِنَّ وبغَيْرهِمْ من النّاس . وبعِبَارَةٍ أُخْرى : إنَّ صَداقةَ البَحْرِ في هذا العَمَلِ الأدَبيِّ سَبيلٌ لاسْتِرْدادِ المرأة لإِنْسانيتها ولتَجْديدِ لقائها بأُنوثَتِها التي كنتْ تَفْقِدُها وهيَ تُعاني باسْتِمْرارٍ من ظُلْم العَقْليّاتِ الذُّكوريَّة داخلَ المجتمع . وكأنّي بالكاتبة فاطمة الزهراء المرابط تَدْعو – بهذه الصَّداقة التي تَعْقِدُها بَيْنَ النّساء وبين البَحْر- إلى الإحْتِماءِ بالطَّبيعَةِ منْ قَسْوَةِ بعض العَلاقاتِ الإجْتِماعيَّةِ الَّتي تُدمِّرُ المرأةَ، وتُدمّر الإنسانَ المعاصرَ عُموماً، وتُشْعِرُه بالغُرْبَة والعُزْلَة على الرَّغْم من كَوْنِهِ مُحاطاً بآلافِ النّاس .
ولعَلّ في الدَّعْوَةِ إلى الإحْتِماءِ بالطَّبيعَة دَعْوةً ضِمْنيَّةً إلى الصَّمْتِ،ـ باعْتِبارهِ سَبيلاً للِقاءِ النَّفْسِ والإبْتِعادِ بها عَمّا يُؤْلمُ . ومَعْلومٌ أنّ «الإنْسانَ [يَقْتَربُ] في تَجْرِبَةِ الصَّمْتِ من المقدَّس، ولذلكَ يَقْتَرنُ الصمتُ بالتَّجْربَة الدِّينيَّة بشَكْلٍ عامّ، ويَقْتَرنُ بالتَّجْربَةِ الجَماليّة في الفَنّ أيضاً، ولذلكَ عَبْرَ تَجْرِبَةِ الصّمتِ، تَبْدَأ نُسُكُ الدِّين، وتَتَفجَّرُ كَلِماتُ الشِّعْر والموسيقى والأَعْمالِ الفَنّية»(14)، ولا غَرابةَ بَعْدَ ذَلكَ أن نَقولَ عَبْرَ تجربةِ الصَّمْتِ، وُلِدَتْ هذهِ المجموعةُ القصصيةُ الأولى للكاتبة فاطمة الزهراء المرابط .
الإحالات:
(1) ماذا تحكي أيها البحر..؟ لفاطمة الزهراء المرابط، منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة، ط01، 2014م.
(2) ماذا تحكي أيها البحر..؟، ص77.
(3) نفسه، ص83.
(4) نفسه، ص23.
(5) نفسه ص27.
(6) نفسه ص89.
(7) نفسه ص90.
(8) نفسه ص90.
(9) نفسه ص27.
(10) نفسه ص98.
(11) نفسه ص117.
(12) نفسه ص35.
(13) نفسه ص52.
(14) الصمت رسالة إنصات للوجود، لرمضان بسطاويسي محمد، مجلة العربي، العدد 560، يوليوز 2005م، ص139.