تعرفت على الشاعرة جميلة بلطي عطوي من خلال ماتنشره في بعض المجموعات الخادمة للكلم، فلم اجد بداً سوى أني توقفت، لأقرأ زيزفون التروي في لحظات تحسها (أنثى)، قد فطلها الوجود على أشياء ماكانت لتبوح بها في وقت مضى .ولكن حين يسال الزمن مقاليد الوقت، لاشك هناك النطق، ولعل أغلى شيء يخرج بريئا بغير ارتياب، هو تلك (المتناصات) التي تخرج مثل المؤذة التي ستسال وتفرد معها اعتراف جيني في ومهودة الدنيا، حين أقفلت بترها ذات يوم على أنثى شهدت أن قلمها أوصلنا إلى منابع النقد، لتصير فتلة من فتلات الخياطة الشعرية بتونس الحبيبة، لم اركن ذات يوم، ولم انتظر إلاّ وأنا باحث في الأدب التونسي أُقلب مغانم كثيرة استوعبتها من الحركة الأدبية التونسية، حين تكلمت عن الحركة الشعرية التونسية بدأت ترسم مغانمها كثيراً في الوطن العربي .
إن الشاعرة ببلطي، وهي تترنم في هاته القصيدة إنما أرادت أن تقول أشياء في غاية النباهة، وهي أشياء قد لايفهمها القارئ في البداية، إلاّ بعد أن يتمرس كل النهاية في الشاعرة وماتقوله، من ودق الشعر وتصاوب به الأمكنة .
قسمت قصيدة (جلست ) إلى زوايا أو طبعات نقدية أكاديمية، حاولت ان أجول فيها من بعد أكاديمي يهتم بعناصر السرد وبزاوية أخرى تطرق المفاهيم الأدبية الشائعة أثناء الشرح ومن الزاوية الثالثة كانت لي محاورة في الطابع الدرامي والقناعي في كل حيثيات الكلمة المقيلة وفي الزوايا الرابعة أردت أن أجد تصنيفا للقصيدة من باب رؤيا العالم، ليدرك الجميع أنني أقدم لنافذة رؤية العالم شاعرة جادة ومتمكنة....
الزاوية الأولى : جلوس بلا بداية وكآبة في النهاية
استعملت الشاعرة في زواية الجلوس، فعل جلس، مربوطا بتأء التأنيث لتشغل الرواي بعيدا وتتقمص هي الدور، الذي يشبه أدوار أبطال مسرحية هملت، لشكسبير، لكون الجلسة في حد ذاتها هي أيقونة اعتراف، أو الشروع في الإعتراف، أو قابلية الشاعرة للبوح بعد طول زمن ،ـ فالجلوس محرك ضابطي لما سيخرج بعده من بوح، كان الزمن محصوراً في الفضاء، مرة ومرة أخرى في لبه، كيف ذلك ؟ أن موعد الجلسة كان المساء، والمساء محدد بطرفة المتبقي من الوقت للنوم، يعني لم تكن الأعياء قد طالتها لان الجلسة كانت في المساء، ربما بعد القيلولة التي باركها النبي محمد (ص) والعلماء بها تتجسد للجسم مغان صحية كثيرة، والقيلولة هنا بعد المساء، أشبه بجلسة رومانسية قبالة البحر لسيدة تمكث شاخصة تقرأ المستقبل في دفاترها، ولكن هنا سؤال مهم يجب طرحه في جلسة البوح يتعلق بالحالة العامة للكاتبة، فربما نستقرئ الكآبة والحزن الذين جعلها تجلس للتحدث .. آه، وجدنا المحرك للكآبة، ذكرت سويداء القلب، وهي تهدف إلى معانقة (حبة القلب) في عمق أعماقه، قد يكون حالا بشمائله أم حبة واحدة في القلب، لا يصل إليها إلا مثل خبير، إذن تأكد لدينا ينبوع الكآبة الذي طبع الجلسة الأولى وهاهو المضمار الذي غنت به :
جَلستُ ..
وأجلِسُ على ضفّة المساء
جلستُ أقلّبُ دفاتري
في سويْداء الوقت ..
الزاوية الثانية: آه.يازمن..من حبة القلب )البوح في خضم التراجع(
في الزواية المواتية تتلفت الشاعرة، لصرفنا بعيدا عن كائنات تحرك الظل، وتركت حبة القلب من الداخل تموج في فضاء الزمن، فالزمن عند جميلة، مدى حاوى وفضاء كبير للتخفي، أو إسكات الوجه وكأنها تقرأ (آه يازمن) كما كان يقول عبدا لحليم حافظ ، عندما نظر إلى خمائل أسيوط، ، فالآهة عند بلطي، ذلك المتخفي في أعماق القلب، تريد أن تفصح عنه ولكن الزمن بكليته وأحداثه أركم بعضا من السوالف حجبت (حبة القلب) عن الحضور، واستبدلت في ألمتخفي الزمن وكأنه السويداء وانتبذت في البياض حلم، خرجت من النقيض إلى نقده، الحالة هنا بسيطة تريد إن تعبرعن ذلك الزمن، كان حلماً أبيضاً، وتتركنا الشاعرة بذكائها ندور في دواليب البياض، هل هي تبحث عن حلم رومانسي جمعها بحبة القلب ؟ أم أن العيش في الزمن كانا بياضا مثل الثلج أين يكون التأويل لبجعات هن يرتشفن من بياض الثلج على وهدة فيزوما بروسيا.. وهاهي تقول :
- أبحثُ عنْ زمنٍ عنْ حُلمٍ أبيَض
الزاوية الثالثة : قطرات الندى تكشف الحبة في السويداء
لنحاول في هاته الزاوية، أن نرافق الشاعرة خلسة في جلستها الندية، وما علاقتها بالروض، آه الشاعرة هنا تبحث عن الحلم الأبيض، ويظهر أنها مفعمة باللون الأبيض، مما يدل على نقاء سريرتها بالكامل، فالأبيض هو الصافي من كل الأوجه الأخرى، فالمدونة اللونية عند جميلة غير واضحة إلاّ في الأبيض، بدليل أنها أدمجت كل الورود بالإضافة إلى الندى مرة وحدة على الوجوه، ولم تخرج اللون المفضل لها وكأنها ألان تعترف بعلو شخصيتها في قدر الحاقدين أو من الأصدقاء الرافضين .
لا أرى في غير تلك الوجوه التي أخلطتها ألوان الروض، ولكن لماذا استعملت الندى بقطراته ؟ يزيد لمعان الورود وكأنها تحور في مخيلتها منظر الند ى وهو يتساقط على أوراق الزيزفون .
للندى هنا مسالة ترابطية، ففي الزاوية الثالثة يحرك قضية الندى الذي أيقظ صياصم الحلم وازهق التعب المتجلي وانساب بهدوء، حيت رش معنى ان المطر زاد والقهوة غرقت بين الشفتين مددا للإسراع قبل فيضان الندى (صورة شعرية جميلة) وهاهي ترتشف وتقول :
رَوْضٌ تتنافسُ وُرودُه
والنّدَى على صَفحاتِ الوجوهِ
يسقطُ غفْوة
يرُشُّ العبيرَ
على الجنيات والشّمسُ
تَرشُفُ قهْوة
رَوْضٌ تسابقتْ إلى ساقيته
الزاوية الرابعة:الغيهب المفجوع..
تبدى الشاعرة بممارسة التعتيم العاطفي وتنزل من بقيع الرومانسية إلى الواقعية عندما تستحضر العائلة الوالدين في هاته الزاوية، تتذكر مرور الوالدين إلى دار الغياب والغياب مُعلَل بطيف أمي صوت، ويتبع بطيف الوالد والإخوة، فهذا مثل هديرالحمام أو بوح في الغياب، أوهي من هجرت المجتمع الأسري في ذاتيتها، لم توضح مزيدا من المصطلحات التي تفرج الأزمة وهي لا تعوزها، هذه مؤاخذة عليها لان الطيف نذره على المتوفي وبلغة الصوفية على الأرواح، المهم ماشدنا إلى هاته الزاوية هو حبها الشديد للمجمع العائلي، لأنها رأت رؤية ملائكية أبصرت بها صورة الوالدين والإخوة من جهة ثانية استعملت (الكفن) الذي أوقد الذكرى فهنا أنار معلومة أنها تعيش الحزن والكآبة الأمر الذي استخلص لنا في الزاوية الأولى، والزمن كان لصيقا للمساء، ربما ماحدث للمجتمع كان في المساء لذلك اختلط الوجع بين رؤى ملائكية وكفن القلب، وهاهي تتأوه :
رُؤى ملائكيّة تُسْدلُ على وجْه الدّجى
كَفنًا في القلب توقدُ ذكرى
ماء سلسبيلا أوْ..حرقة نار
ٍ بيْن دفّتيْ دفتري
طيْفُ أمّي صوتُ
أبي إخوتي
يشدّون الرّحال تباعًا .
.تِباعْ والماءُ في السّاقية كان رواء
وضَاع على ضفّة المساء
الزواية الخامسة :الزمن المخادع والحرف المخدوء
تعاتب الشاعرة في سابقة ، المساء أو الزمن الغاضبة منه ، لم يخبرها أن الغياب لكل الذين مروا في هالة الضوء عندها إنما كانوا مهمين ولأن النسيان يريد إن يبعدهم عن الحضور، كما كانوا يعد الامر تجنى على ذاكرة تنسى من اجل إن يستمر الإبداع في المجاز وفي الواقع ، الزمن يدري ان الفراق صعب ومر مذاقه ، وهو كامن في كل موقع مر فيه المحبون ) الساحات و الأشجار و الطرقات قبالة البنايات (.
الكل يشهد أن هنا سجلت لحظات من أنوار السعادة وكأن الروض يدس ألوانه غير ان الزمن القاري حجب كل هذا وصار بدله مكانا أخرا ، فالشاعرة زوجت نظرتها للمكان والزمان من عدة رؤى أكثرها مجازية ، ورددت أمامها غيابات ، ومعاتبتها بدأت حين اتهمت الزمن بالمراوغة ، لم يوضح لها شجون الغياب ان الزمن يكون قد مر بعيدا بين مسافات المكان الذي حدث فيه الغياب والأمكنة الأخرى ، تساله بالمد والجزر وكأنه يدري ولا يدري ،
وفي الأخير تنصب نفسها من حرف اكتشفت غدر الزمان ، لم يوقظ لها سنوات ، لترتاح من الغياب بل جعلها تتذكر في ذلك المساء، أن الزمن مراوغ ومغادر مهما كانت اللحظات الجميلة ، فهو غير مرحب به ، وكأني بها تبكي ألان في هاته اللحظات في هلوسة وهستيرية ، كونها اكتشفت غدر الزمان حينما نصل إلى نسيان الرؤى الملائكية ونستقبل زمن جديدا متوالد من ماضي سحيق منسي فمن ذا الذي يحيه سوى التأمل في جلسة غير مختلسة بين الذاكرة ومداد الحبر الندوي الذي يجبر مساءات الزمن إلى البوح..وهاهي تقول:
جلستُ و أجلسُ أيّها الزّمنٌ
لِمَ المُراوغةُ لِمَ تسكبُ في أكوابِي الغياب
أتُراكَ تدْري ؟
أمْ أنّكَ لستَ تدْري
أنّ الفراقَ بركانٌ بيْنَ الحَنايا يثور
كلّما أنَّ طيرٌ
كلّما غ كلّما غابَ نجْمٌ
كلّما في سجدة الرُّوح
سبّح نبضٌ
كلّمَا الأفق لبسَ
هالة الضَّوء م
َتَح لمْعة الفجْرِ
أو غريقا للّيل ..
الشاعرة ربطت ربطا جماليا، لمشاهد جمعت بين المحاكاة ، وبين تقول الشاعر، أرادت إن تقول لكنها ترددت وهذا التردد لم يجعلنا نستمتع بفحوى القص الذي أرادت إن ترويه من دفاترها، وجعلتنا ننصت إلى ملفوظاتها الجميلة التواقة.
أكد ذلك أنها تملك حروفا هي بأشد الحاجة إليها، لم تفرغ القص وتعطي له جاذبية إما باعتماد الشخوص لأني رأيت فعليا سيطرة الشاعرة على الرواي وعلى الشخوص فقد قتلت الجميع من اجل أن تقول لنا إن الزمن مراوغ ولكن القصة ) حبة السويداء ( والغيهب المداري للمجتمع الأسري ، جعلنا نفقد إرادة الحكم على الأسلوب أم السرد ، فالعناصر السردية كالحدث موجودة داخل القص و الشخوص معدومة و الزمن كان غازيا والمكان كان متخفيا ، والدراما بادية والقناع كان سيد المواقف..