"نوستالجيا قصصية بين هيمنة التذكر و قسوة الراهن"
قصص لحيدر عودة..
كتب القاص العراقي لؤي حمزة عباس
عن قصص المجموعة ما يلي :
“يكتب حيدر عودة عن الفقدان، عن المصائر المجهولة لأصدقاء قريبين، يرسم عبر خرائط غيابهم قصصا تموج باللهفة والحنين، ويسعى، بالتذكر مرة وبالحلم مرة اخرى، لمواجهتهم والإستماع لما خلفته أصواتهم من أصداء تضئ بلوعتها فضاء الذكرى، لتملأ القصص ما تركته قسوة العالم في نفوسنا من فجوات .”
" القصص تدوين وقائع إنسانية فارقة :
يرويها، في الغالب، سائق تكسي، في مجاورة بين مهنته التي زاولها في مغتربه الأمريكي وتجارب تخييله السردي، مثلما يحرص، في الجانب الآخر من الحكاية، على تقديم مهاجرين يستعينون على غربة أعوامهم بسرد القصص، وهم في قصصهم ينشدون حضوراً في مكانين : غائب تبدو استعادته ضرباً من المستحيل، وحاضر مثقل بالوجوه الغريبة، وبينهما يواصل الإنسان لوعته، لتواجه القصةُ النسيانَ، وتهزم اغتراب شخصياتها بما تستنهض من ألفة إنسانية تبدو إطاراً جامعاً للقصص وهي تلمس جوهر الإنسان في أعماق كلٍّ منا ."
"الكاتب علي عبد الامير عجام يقول" :
ثمة إتصال ثقافي عبر تشتت مكاني: كاليفورنيا (الإقامة) وشيكاغو (العنوان) والبصرة (رؤية الكتاب النور)، وذلك حتى في حال وروده صدفة، إنما يشي بحضور النص بفاعلية تتجاوز لغته وتقنياته السردية إلى مدى يحاكي الإتصال الثقافي بجدية حقيقية .
يتابع "القاص حيدر عودة" الإفصاح عن بواعث إقدامه على استكمال تجربته القصصيّة في مجموعته القصصية "غيمة شيكاغو" هذا البوح والذي يعترف بأن سحابة من الحجر ما زالت تظلّله هي ضرباً من ضروب البوح الشخصي والذي يحسن كاتبها في إفشائها للمتلقي بطريقة مشوقة ومسلية فالقارئ يشعر أن الكاتب يحكي له ويقص عليه حكايات ببساطة وعفوية وكأنه يُـسامره، ومع ذلك فإن مهارة الكاتب في ممارسة فن الغواية في السرد قد يستدرج القارئ للمشاركة في الحكي . نصوص قصيرة تتدفق ملونة بياض ذاكرة محاصرة بأزلية الخراب، تتخمنا بجماليات النقلة من نرجسية الحالة وأحاديثها وقطبيتها إلى عالميتها وتعددها .
اقتباس :
"قصة بيت في حلم"
إلى علي عبد النبي الزيدي، الشاهد والشريك في الحلم، (أشياء صغيرة يمكنها أن تترك في قلبه شعوراً بالفقدان، قد يعيش معه طويلاً، مثلا : أن يصادف أحد أصدقائه القدامى في مكان ما لم يخطط للذهاب إليه، فيبدو له شخصاً غريبا مثل وجه عابر في صورة متخيلة، حتى يقرر أحيانا التخلي عن الذكريات التي جمعتهما معاً في أوقات بعيدة مهما بدت ثابتة ولا تسقط مثل رسوخ دون اختبار، أحيانا ينتابه شعور أنه يعيش بذاكرة ليست له أو بقلب شخص مات وهو يحبس الكثير من الغضب . هو الآن يعيش لحظات فقدان أناس معنيين في حياته وحسب، ويملأه شعور بأسى عميق لا ينفع معه النسيان...ص11) . وهنا يمكن لمس البعد الأوتوبيوغرافي – السيري الذاتي- حين يسرد القاص سيرته الكتابية بعد أن نلتمس تداخل سردي وبأصوات متعددة تعيدنا إلى عالم أمكنة الذاكرة من خلال سرد ممتع في حيوات متنوعة هي جزء من الذاكرة والتي تحاول أن تؤثر في أفق توقع القارئ وتفتتح بتنويه للسارد بأنها محض حكايات قصها على مسامعه "ساقة" سيارات الأجرة في مدينة "إلكهون" شرق مقاطعة "سان دييغو" الأمريكية، الذين منحوه حكاياتهم وحزنهم ..
اقتباس :
"عائلة مسافرة"
(لايعرف سبب تعكر مزاجه كلما خرج من شقته في منطقة إلكهون متوجها لعمله، أمضى حوالي عشر سنوات سائق أجرة في شركة النجمة الزرقاء رغم محاولاته العديدة للبحث عن عمل آخر، لكنه يفشل ويعود ثانية للشركة نفسها . يفكر في أيامه وماضيه ومايحدث له كل يوم دون تغيير ملحوظ. ثمة أشياء تختفي من حوله وأخرى تحل محلها، مثلما يُهدم مطعم أو فندق ليحل محله مطعم آخر أو متجر ما، مع ذلك تبقى الأمكنة ولا تختفي فهي جزء من وجود واحد ممتد.... ص73)، والحقيقة أن استغراق الكاتب بوصف تلك الأمكنة دليل تشويق وإثارة دهشة المتلقي لعوالم، وكأنها الحلم، وبقدر ما يضفي ذلك من حميمية على تلك العلاقة التفاعلية، فإنه يجعل شخصية السارد تهيمن على السرد الحكائي وتجعله حاضراً في كل مكان، مما يوحي بأنه سرد ذاتي يدعو لتحفيز الواقع برؤى مستعادة، سواء من خلال استخدام أسماء الأصدقاء أو أسماء أماكن بعينها في محاولة لتأكيد ذلك التفاعل والحميمية .
اقتباس :
"قصة غيمة شيكاغو"
الى قيس وحكاياته :
(في أوقات الإنتظار الطويل لنداء طلبات سيارات الأجرة، يتجمع الساقة في زاوية تحت سلم مشاة كونكريتي تحيطه بعض أزهار منقار الطير، وهي تودع بريق ألوانها مع نهاية الربيع، يجلسون على حافة الرصيف مثل مشاهدي عروض الهواء الطلق مشدودين لصوته وهو يبدو كأحد أبطال الأفلام . يأخذهم في كل مرة لمكان مختلف، وزمن لم يعيشوه، لم تكن حكايته معلقة في سماء شيكاغو فحسب، بل كان يجبرها أن تهبط وتمطر على مدينة "إلكهون" الصغيرة، والمحاصرة بجبال أربعة . "شيكاغو" الستينيات ليست فقط في أفلام العصابات والجريمة، بل أنها في حكايات جورج أيضا...ص45) .
من عتبة النص الأولى مروراً بالمتن يكشف لنا الراوي ما يشغله وهو يستعيد تواريخ وأحداث ما زالت تنام في أقبية ذاكرته (ذاكرة لزمن بعيد) محمية بالنسيان الواعي، عبر الإنتقال السريع إلى أمكنة راهنة يعيش فيها الراوي مدينة "شيكاغو"، هذه المدينة، الحلم، ليست مجرد مكان بل هي مبتغى كل حالم . وهذه الأمكنة تفرض قوانينها على ساكنيها، لاسيما (سائق التاكسي، وهو محور القصص)، الذي يطوف ليلاً ونهاراً في شوارعها العريضة والسريعة، عله يستطيع فك مغاليقها ويضئ بخياله عشرات الحكايات الغامضة والمعاني الخفية لحوادثها ومصائر شخصياتها المجهولة، ثم يدونها سردياً، من خلال حوارات تدور بينه وبين الركاب، بلغة سهلة مرة ورمزية مرة أخرى، وأحياناً عبر تقنيات سردية تختلف من قصة إلى أخرى، حتى أن القارئ يشعر بنفسه ينتقل مع السائق والركاب بسيارة الأجرة، ليدخلا معا لأمكنة لا وجود لها إلّا في الحلم، يرصدها بعدسة كاميرا قريبة أضفت على أجواء القصص حسا درامياً بالغ التأثير .
اقتباس :
"قصة كرسي مارلون "
(منذ ثلاثة شهور وهو يستيقظ مبكرا، بعد أن عمل في شركة لنقل مرضى الحالات الخاصة، يتوجه بسيارته لنقلهم من أماكن سكن متفرقة إلى المستشفيات أو العيادات المتخصصة، بالإضافة لرحلة ساحل "لاهويا" شمال المدينة لمرة واحدة في الأسبوع، بينما بقية الأيام ينشغل معهم في مراجعات وعلاجات هنا وهناك . يبدأ بالسيد وليد مسعود الذي وصل المدينة منذ عام ويقيم في سكن خاص بكبار السن في مدينة "إلكهون"، يتحدث الرجل ببطء وينصت بعيون مفتوحة تنغلق بين الحين والآخر ....ص52) .
إننا أمام نصوص جريئة تقاوم أي شكل من أشكال التغييب والإقصاء للأمكنة البكر، فيها رصد لسيرة، تبدو، ذاتية للراوي لكننا نجدها سيرة لحياة المنفى بطريقة -نوستالجيا- مضادة تبعها "الراوي-القاص" للحفاظ على الوعي بحركة السرد وهو يحوك لنا مواضيع مازالت تناجي شخصيات بعيدة وأمكنة تحتفظ ببقايا حياة وذكرى..
اقتباس:
"قصة رحلات قصيرة :
الى احمد ثامر
(أحياناً يشعر أن حياته ليست أكثر من تجميع لمشاهد من أفلام مختلفة أو أن ما يمر به يتشابه مع مشاهد أفلام قد شاهدها . فكر بذلك وهو يُنزل لوحة جدول رحلاته اليومية من على الجدار ويضعها مع كتبه في صناديق من البلاستيك بعد أن طلب منه صاحب الشقة الرحيل، لحاجته لها . وحين أكمل جمع أغراضه كلها جلس على كرسي هزاز كان آخر ما اشتراه من رحلة السعادة والدهشة ليلتقط أنفاسه....ص89) .
أمام عالم محكوم بشتى صنوف القهر والإستلاب، الذي يصل لحد التوحش يواجه الإنسان مصيره لوحده، بينما هو يتصارع في داخله عالم الأمس وعالم اليوم، تنزاح حياة الراوي القديمة وتنهزم أمام حياة لا دهشة فيها ولا معنى، تقاوم شخصيات القصص حياة المنفى والمغتربات البعيدة، بينما هم يستعينون بأمل غير مرئي في أن يعودوا ذات يوم لمدنهم ويناموا في بيوتهم مثلما كانوا في الماضي . يستعيد الراوي صوراً مختلفة ويتذكر أماكن متباعدة في المسافة والزمن، في محاولة لردم الشعور بالفقدان والإنكسار في داخل كل فرد، وإن حاول في بعض القصص تطعيمها بسخرية سوداء . لكنه مع ذلك يتصور أن الحياة هي صورة تجمعت من لقطات أو حيوات متشظية نعيش لجعلها متناغمة ومنسجمة مع رحلاتنا في عالم لا يمكن وصفه بأكثر من كونه غرائيي ومتحول باستمرار..
.............................. ......
* القاص حيدر عودة من مدينة الناصرية مواليد عام 1972، حصل على دبلوم إخراج مسرحي عام 1992 في البصرة . مثلَ وأخرج العديد من المسرحيات داخل وخارج العراق . يكتب القصة القصيرة منذ عام 1993 . له عدة مجموعات قصصية مثل (حواءآت أدم) و(غيمة شيكاغو) . فازت بعض قصصه بمسابقات أدبية داخل العراق . يكتب في النقد التشكيلي، وله العشرات من المقالات والدراسات التشكيلية . يعيش في ولاية كاليفورنيا بمقاطعة سان دياكو منذ 2001. ) .