ديوان شعري للشاعر العراقي المغترب " د. مسلم الطعان"
"النص المضمر رئة النص الشعري واستنبات مشاتل المعنى "
قبل شروع الرحلة
أحفظ بجرار الروح معاني ما ترويه
النخلة وأغزل خيوط رؤاك
من ألحان تنفثها رئات الطين
وأنا العابث منذ مسافاتي الأُولى
بايقاعات الطين
تختلف طقوس الكتابة من شاعر إلى آخر فتنعكس على النصوص الشعرية بحسب طبيعة الإطار العام الذي يؤطر فعل الكتابة، لذا فإن نصوص الديوان "مسافات الماء وجرار المعنى" سعت إلى تحقيق الإنسجام على مستوى الرؤية الفنية والفكرية .
القصائد في هذا الديوان هي بوح شفيف، يكشف عما توارى من جراحات وأشجان الذات، وتصبح القصيدة ذاتها كائنا يتغذى من الذات الشاعرة، وترسم صور القصيدة وأسئلتها، فيصبح الشاعر والقصيدة كلاهما عالم تسوده الوحشة والإغتراب...
وهنا الشاعر "د. مسلم الطعان" يهتم جداً بعناوين دواوينه الشعرية وبشكل مدروس ليجعل منها عتبة لا مناص للقارئ من الوقوف عندها وقفة تأملية عميقة ليكتشف المعنى من خلال السياق، ويستطيع إدراك المدلول العام لمختلف نصوصه الشعرية كإجراء دال ذي بعد رمزي يسعى الشاعر في ضوئه إلى إثبات كينونته الروحية ووجوده المادي وفي ضوء هذا تضطرب طقوس الكتابة على مرآة الذات الشاعرة الراغبة في الخلاص من النفي القسري .
اقتباس :
أُسوّر الليل
بأسوار المواويل
أنا طريد السنين من السنين
وأنا اللائذ بصدر صبرك
أعلم أنه بسعته لايرد متعباً... ص10
بدءاً من العنوان بإمكان القارئ أن يؤسس لفكرة الإنزياح الدلالي الذي يؤطر النظام الفني لقصائد الديوان ويؤثث الرؤيا الشعرية التي يصدر عنها الشاعر في مختلف نصوصه الشعرية، إذ يدل العنوان على ما بين مفردتين (الماء/الجرار) وحالة النسق المضمر وهو من سمته (الخواء/الامتلاء)، وهو فعل إجرائي مقصود في ذاته وملموس لأنه نسق مخاتل، ولأن كثيراً من الدلائل تدل عليه، وتؤكد حالة وقوع هذا الإجراء من خلال مدلول كناية على هشاشة الجرار ورهافة الماء ...
ويجمع العنوان بين المرئي واللامرئي، وبين القصد واللاقصد، وهو ما يؤكد فرضية احتكام نصوص الديوان إلى الإنزياح الدلالي، مع العلم أن مفردات العنوان تكتشف الأنساق الخفية وطريقة تشكيلها الفني والجمالي لا تلك التي يصدر عنها الشاعر فحسب وإنما تلك التي تتحكم في النص الشعري وتؤطر نظامه اللغوي دلالياً وتأويلياً .
اقتباس :
في الخريف المبجل
كان السقوط
يتلو أوراقه
والحفيف يبكي طويلاً
ثمة ريح قادمة
كي تكنس المكان... ص16
من خلال قراءتنا لهذا الديوان نلاحظ تصاعد السياق الرمزي . أول ما نقرأ “العنوان” بوصفه - كما أسلفنا- أول مفتاح إجرائي يمنح المتلقي اختراق مغالق النص، إذ يمثل “علاقة دالة تكثّف البنية الكلية للنص، وتظل دلالته أعلى سلطة نصية باذخة الحضور .
أما على مستوى اللغة والأسلوب نجد تقنيات فنية تجمعها تقنية الإنزياح الدلالي، وليس بخفي أن الإنزياح أسلوب بلاغي يعبر به الشاعر إلى عالم الخيال، ويعْبُر به إلى العالم الشعري المتخيل، باعتباره الكاشف عن الحقيقة .
اقتباس :
أشم هواها
لهيباً عطري المعنى
حين تدس بقارورة نبضي
أصابع وردتها
وتشعل نار العطر
بآنية إحساسي وثيابي ... س43
التشكيل اللغوي في قصائد الديوان ليس غموضاً، ولا لغزاً مبهماً، كما أنها ليس مباشرة وتقريرية، فهو كقنديل يستضيء به ظلام العتمة، إنه تجربة عميقة، ومسحة جمالية تغطي كوناً شعرياً رائعاً .
ولا بد لنا من الإنتباه إلى هذه العلاقات الدقيقة بين الألفاظ كون الشاعر يعقد عليها الأمل، في إحداث المفارقة المعنوية من الناحية الجمالية؛ لأن السياق هو سياق تأويلي وإفحام بين الشاعر ومحبوبته ظاهراً لكنه مضمونا يرمز إلى اختلاجات النفس البشرية في حالة مكاشفة وحوارها مع الذات .
أقول طبيعة هذا النمط الكتابة عند الشاعر، وهو يكشف عن نفسية مأزومة، وذاتٍ مكلومة، وأصواتٍ محسورة . سواء كانت موجودة فعلاً، أو طارئة وهي المهيمنة على الديوان...
اقتباس :
ذات صباح غريب
قال لروحه
لاتفرطي فيها
هذي الوردة جدارك الأخير
هل سمعتم بوردة
أصبحت جداراً للحب ... ص53
وهذا ما يؤكد فرضية كون الذات من أجل أن تجعل الكتابة حجة على الشاعر احتمالاً ممكناً من ممكنات الوجود .
لقد اختار الشاعر لفظة ( المسافات ) دون غيرها وصف المقياس المكاني لأنسة الأشياء؛ لأنها هذه الصفة تتلاءم بدلالتها المعنوية - الحضور/الغياب –الموت /الحياة . وتلك الثنائية تندرج في ثنائية أشمل هي - الوجود والعدم - ويصبح التفاعل بينهما سمة مميزة لمنطوق الشاعر . ومن مظاهر هذه الثنائية على هذا المستوى ألم فقدان الشاعر للآخرين بمختلف أبعاد الصحبة، والأصدقاء، والرفاق .
اقتباس :
"ألإهداء إلى روح صديقي القاص "كاظم الحصيني "دهشة الفقدان التي تنتحب عند أسوار الكلام...
أيها القروي النبيل
ياسارد حكايا المراكب
على مسامع شغاف الفرات
حينما ترسو على ضفاف نبض
تحاوره القرى...ص57 :
وعلى الرغم من أن الحزن يخيم على جل نصوص الديوان- بحيث يشكل تيمة محورية، لا يحضر نقيضها إلّا من أجل البرهنة على الغياب – فإن هيمنة السواد على البياض، وفق هذه الرؤيا يغدو الضوء مزعجاً على قلته، والظلمة مهدّدة على قوة سوادها . وهذا لا ينفي تأكيد الشاعر على المعاني الإيجابية منها الحلم والصبر واليقين، ففي نص (ماروته المسافات في مدونة أمي ) ينَبِّر الشاعر على معاني الصبر والتمثل، وهي صورة محورية تتكررلصورة الأُم "المتخيل" .
اقتباس :
هذي المرأة تشبه أُمي
أُمي القروية ذات العينين الواسعتين
والصدر الواسع جدا كجبال الصبر
أُمي الفلاحة في بستان أبي ... ص66
وإذا كان” الحزن قد صار محوراً أساسياً في معظم ما يكتب الشاعر وهذا من سمات القصيدة المعاصرة والتي تحمل طابع المأساة وقع الفاجعة . بحيث يصبح الوجود عدماً، ويظل كل ما كان يتمناه الشاعر ويأمل تحققه في طي الفقد...
ففي هذا النص، ومن خلال هذا المقطع، يتجلى أن من الخيوط المؤلفة لنسيج المدلول الدال على الوجود والعدم خيطاً أبيض دالا على الحقيقة وهو ديدن كل شاعر يسعى أن يَلُفّ نصوصه الشعرية بشيء من الغموض ليكسبها ثراءاً دلالياً وتأويلياً، ومن هذه الأدوات الرمز الشعري في هذا النص "مسافات الماء وجرار المعنى" .
اقتباس :
اقتربت مني كطفلة
أعياها البحث عن الطفل القروي
القابع في كوخ المعنى
ينسج من خوص الأشجان
فراشاً لسرير الشعر
بمسافات خضر
ويحاور ايقاعات الجمر... ص83 .
يحاور الشاعر من باب الدراما “مسرحة القصيدة ” الرمز الذي ينظر الشاعر في ضوئه إلى عالم تشع منه الحقيقة والحكمة، هذه المسرحة للنص هنا تؤدي وظيفة جمالية –تفاعلية، وتلك من التجارب الشعرية المعاصرة الموغلة في التجريب، وفق طرق فنية تجعل النص الشعري في ضوء هذا يبدو أعم وأشمل مما يتصور، تلك الكرنفالات المواجهة تتجاوز الذات، وتتوالى عبر الزمان وفي كل مكان .
"خاتمة اسلوبية...الراوي يختم المشاهد السردية وهو يحمل فانوساً سريالياً ليضيء به ظلام الواقع .. يقول الراوي :
ذات يوم تجمعت خراف اللغة وأعلنت إضرابها عن الثُغاء ... العشب يضحك ويحتسي كاس خمرة عتقت في دن الهذيان ... الخ س100"
سمة أسلوبية ولذلك تداخلت النصوص النثرية "سرداً" الذي يؤطر القول الشعري، فقد يَصْدُرُ الشاعر عن موقف "الحكي" في قول تقريري محدد يعنيه، يخدم الصورة . وهنا أقول أن فعل الحكي عند الشاعر يحضر في بعده الدلالي هو انعكاس لاشعور الشاعر، وظاهرة نصية وفنية مبررة أسلوبيا...