لم يشهد الأسبوع الماضي تفجيرات انتحارية أو اعمال عنف كالتي اعتدنا سماعها في العراق إلا أن هناك هجمة عنيفة شرسة لم يكن أبطالها دمويين تكفيريين، إنما أبطالها مسئولون كبار مازالوا منشغلين في تكوين الوزارة والتي هي الأخرى بدت عسيرة بعد طول انتظار!
بطل الحدث إذن هو مسؤول تذكر على حين غرة ، بعد أن حلّ مشاكل بغداد الأمنية ،وأعاد لها مجدها المؤثل وأرجع لها لقبها التأريخي "دار السلام" بحق وضمن استمرار الكهرباء وأمّن لأهلها شرب ماء زلال لا ينقطع، ونظّف شوارعها من أكداس النفايات وأعاد بناء مجاري الصرف الصحي ، وبلّط جميع الشوارع وأزال الفوارق الطبقية بين أحيائها وجعل حدائقها غناء مزدانة بأشجارها الوارفة وزهورها العبقة ورمم ما تهدم من مبانيها التأريخية وراقب صلاحية المواد الغذائية والأدوية في اسواقها وصيدلياتها ،ومنع تداول المخدرات التي جاءت وانتشرت مع الإحتلال بشتى المسميات وبمختلف العيارات وقضى على ظاهرة إدمانها الغريبة على العراق وحارب عصابات الخطف واللصوص وفارضي الأتاوات، ووفر الحماية للكنائس والجوامع وقضى على الفساد الإداري المستشري بكل مفاصل الدولة من اختلاسات ورشى، ونظّم السير وقضى على الإختناقات المرورية وقلص ضحايا حوادث المرور الى حد ينافس اوسلو ...وجعل الزوراء مدينة مثلما كانت قرة عين الزمان تحسدها ستوكهولم وفينا وجنيف وطوكيو!!!
بعد هذه الإنجازات الكبيرة تذكر المسؤول النكرة المغمور الذي جاءت به المقادير العمياء ، تذكر أن بغداد تعج بالملاهي والمراقص والمقاصف والمشارب وأن رائحة العرق بدأت تزيح رائحة البارود وفق قانون غراهام في الإنتشار وبدأ الشاربون يتناقشون وينتقدون ويغنون - ويبكون أحيانا- كسالف عهدهم بل ويفضحون سراق السر والعلانية ويحكون عن الصفقات المريبة والعمولات التي جعلت من حفاة الأمس أصحاب ملايين ، وإن مقر اتحاد الأدباء العراقيين غدا صرحا أدبيا يجذب الشباب المتلهف للثقافة الإنسانية وللكلمة الجميلة وغدت شجرة الماركسية خضراء مورقة بعد أن أضر بها اليباس وان دائرة الظلام ماانفكت تنحسر أمام نورالعقل...فلا بد من قرار حتى وإن بدا أهوجَ لإعادة الأمور الى "نصابها" وهو غلق هذه المحلات بعذر حتى وإن كان أقبح من الفعل، وهو أنعدام الرخص!! وبذلك حرم الافاً من أصحاب العوائل المسيحيين من أرزاقهم كما حرم مئات الألوف من الناس من ممارسة حياتهم المدنية الخاصة ومصادرة حقهم في التمتع بساعات قليلة بعد ساعات طويلة من الإستلاب، والأهم خنق الدائرة الذكية متمثلة بالأدباء والمثقفين.
فكل من عاش في العراق يدرك أن العراقيين أكثر الناس تسامحا واقل الناس تعصبا للدين ، فالمشروبات وتعاطيها مسألة او عادة اجتماعية عميقة الجذور جدا في العراق ، فالسومريون هم أول من صنع البيرة تشهد على ذلك الألواح الطينية، والبابليون اشتهروا بخمورهم وما توقف انتاج المشروبات قط في العراق على مر تاريخه العريق ،والشابشتي في كتاب "الديارات" يصف أن الأديرة كانت منتشرة في طول العراق وعرضه على مر العصور وكانت مزارا لطلاب المتعة واللهو ومرتعا للشعراء الذين قالوا فيها أروع قصائدهم ، كما كانت الخمور بأنواعها تباع بشكل علني وكانت الخمارات تفتح أبوابها للشاربين من مختلف الفئات الإجتماعية وحتى الدينية. فهذا العلامة شيخ الأدب ابن دريد 321ه، الذي وصف بأنه أشعر العلماء واعلم الشعراء كان يعاقر الخمر وينكب على عمله في التأليف أو الإملاء -راجع الذهبي 10/53 ولا يختلف الحال لدى المرزباني صاحب معجم الشعراء من أعلام القرن الرابع، قال الأزهري: كان المرزباني يضع المحبرة وقنينة النبيذ يكتب ويشرب، الذهبي10/607ه وقال فيه الخطيب البغدادي:ليس حاله عندنا الكذب ووصفه العتيقي :كان معتزليا ثقة. هذه مجرد أمثلة ولو استطردنا لأحتجنا الى مجلدات، ثم من من أمراء المؤمنين من بني العباس لم يعاقرها؟ ومن من الشعراء بمن فيهم المتصوفة لم يغازلها؟هل سمعتم بخمريات العالم الجليل أبن معصوم أو العالم المجاهد الكبير محمد سعيد الحبوبي؟؟
تأسس اتحاد أدباء العراق عقب ثورة الرابع عشر من تموز/يوليو1958 وكان شاعر العرب الأكبر الجواهري أول أمين عام له وظل إطارا تقدميا معبرا عن وجه الثقافة التقدمية العراقية الأصيلة- باستثناءالفترة الكبرى من النظام السابق- ومدافعا حقيقيا عن حقوق الأدباء وعضوا فاعلا في اتحاد الأدباء والكتاب العرب حيث علقت عضويته منذ فترة الإحتلال بسبب تأثير بعض الأطراف المهيمنة على الإتحاد وبقرار جائر ، وكأن الأدباء العراقيين هم الذين أتوا بقوات الإحتلال! لقد تضافرت هجمتان من الداخل ومن الخارج لتحجيم دور الأدباء العراقيين ووئد كلمتهم الجميلة وشل فاعليتهم في التصدي لثقافة الظلام بشجاعتهم المعهودة!
يُخطيء من يتصور أن هذه الإجراءات التعسفية يقف وراءها شخص واحد بل تقف وراءها أيضا قوى سياسية في أعلى هرم السلطة ومرتبطة ببعض المرجعيات بل لايخلو الأمر من استجابة وتقرب الى إيران والسعودية، كما إن هذه الجراءات ليست جديدة أو انها بنت ساعتها ، بل هي تتويج لسلسلة من المضايقات والإعتقالات والتصفيات التي طالت الأدباء والعلماء والمسرحيين والفنانين والصحفيين والرياضيين ولم يسلم منها الحلاقون وبائعو المشروبات الروحية والحداثيون من الناس العاديين! فليس غريبا أن يصف ذلك المسؤول الأمي بكل صلافة الأعتصام الذي دعت اليه " صحيفة المدى" والذي شارك فيه مئات من المثقفين والأدباء ورجال الدين المتنورين في شارع المتنبي بالمأجورين بل هو انعكاس للعقلية المتخلفة التي تخشى الثقافة والإبداع بل تمادى في صلفه عندما هدد بقصف محلات المشروبات المخالفة ، وهذا ما حدث فعلا يوم الإثنين 7 ك2 عندما تم قصف أحد هذه المحلات في شارع السعدون في قلب بغداد!
وإزاء هذا التطور الخطير لابد أن يتكاتف جميع محبي الحرية وكل من تهمه حقوق الإنسان من أجل وقفة جادة بوجه ثقافة الظلام المتلفعة برداء الدين ومروجيها ولكي تبقى بغداد الحرية عاصمة للقراءة وصانعة للكلمة الجميلة!