يشكل التعليم إحدي القضايا المحورية في كل المجتمعات ويتأكد ذلك بما ينبثق عنه من بحوث ودراسات وتعليم وتدريب وتطبيق . وما يخصص له من ميزانيات طائلة تنفق على المدارس والجامعات والمعاهد ونحوها .
ولا يقتصر الإهتمام بالتعليم علي المؤسسات فحسب، بل يتشارك فيه الأباء والأمهات وأفراد المجتمع عامة . لأنه من الأمور بالغة الأهمية في كل المجتمعات .
وعلي الرغم من وجود إتفاق كبير حول أهمية التعليم ودوره في حياة كل منا . فهذا لا يمنع من تساؤلات قد يعتقد الكثيرون أن الإجابة عليها من البديهيات، بل إن مجرد سؤالها يعد من العبث وضياعاً للوقت، فمن البديهي أن التعليم يمحو الأمية، وإلا ما كان يسمي تعليمأ . وهنا لابد من وقفة، لأننا لو أفترضنا جدلاً أن التعليم يمحو الأمية فإن كل فرد لم ينل قسطاً من التعليم يعد أمياً، وفقاً لقواعد المنطق .
وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن مفهوم الأمية : هل هي أمية قرأة وكتابة ؟ أم أمية عقل وبصيرة ؟ أم أمية ثقافية ؟ أم كل ذلك جميعاً ؟ .. يجب أن يهدف التعليم لمحوها .
في الحقيقة أن الأمية تعني كل ما سبق . فالشخص الأمي هو الجاهل بقواعد القرأة والكتابة للغته الأصلية . وحاليا أصبح الجاهل بقواعد القرأة والكتابة للغة ثانية مثل الإنجليزية أو الفرنسية ... الخ .
هذا في المعني الظاهر لمفهوم الأمية . أما لو تتبعنا سبر أغوار هذا المفهوم سنجد أنه يحمل الكثير من المعاني والدلالات لا نستطيع إجمالها في هذا المقال، وعلي سبيل المثال بالمعجم الوجيز تشير كلمة أمي إلى الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكلمة أمية كمصدر يعني الجهل بالقرأة والكتابة . ومن المعاني الأخري للأمية في المعجم أيضاً : من ليس من أهل الكتاب، ويستدل علي ذلك من القرآن الكريم بالأية الكريمة ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ) وبذلك يوجد معني أخر للأمية، يتفق في المعني مع ذلك النمط من الأمية والتي تتمثل في أمية العقل والبصيرة . لأن مهمة العقل هو التفكير والتدبر لمعرفة الخير والشر ومعرفة الطريق الصحيح والسليم ... الخ، ومن ثم حينما يتوقف هذا العقل عن وظيفته فإن صاحبه يكون في هذه الحالة شخص أمي، وأميته أمية عقل وبصيرة . ويندرج تحت هذا النمط أولئك المتعصبين والمتحجرين فكرياً لأفكار بعينها دون إعمال للعقل .
وهذا النمط من الأمية مختلف عن النمط الأول للأمية، لأنه يندرج تحته أشخاص كثيرون يتقون القرأة والكتابة ولديهم العديد من الشهادات العلمية، لكن عقولهم جامدة ومتحجرة ومتعصبة لأفكارها، ولا تري غير ذاتها في هذا الكون .
ولا تقتصر الأمية علي ما سبق فحسب، بل هناك أمية أخري تتمثل في الأمية الثقافية . والتي تشير في معناها إلي الجهل بالهوية الثقافية للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، أولاً بالإضافة للجهل بمعرفة قدر - نسبي - من الأنماط الثقافية العامة للمجتمعات الأخرى .. لأننا لم نعد نعيش في جزر منعزلة في هذا الزمان . فكل مجتمع لديه هوية ثقافية تتمثل في مجموعة السمات والعناصر الثقافية التي تميزه عن غيره من المجتمعات الأخري مثل : اللغة والدين والأعراف والتقاليد وغيرها الكثير والكثير من العناصر والسمات الثقافية الأخرى . وهنا قد يتساءل البعض هل من الضروري أن يكون الفرد محيط بكل عناصر وسمات هوية مجتمعه الثقافية حتي لا يقع في براثن الأمية الثقافية ؟
والإجابة أنه لا يستطيع أي فرد في أي مجتمع أن يحيط بكل عناصر وسمات هوية مجتمعه الثقافية . لكن يستطيع أن يأخذ منها ما يميزه هو عن غيره في المجتمعات الأخرى مثل : إتقانه للغته الأم وتعاليم دينه وتعلم الأنماط السلوكية والأداب العامة التي تتفق مع هوية مجتمعه الثقافية . والأخذ من الأخر بما يتفق مع تلك الهوية ويساعد علي نموها وتطورها للأفضل، وعدم الإنبطاح التام لقيم ومفردات العولمة الثقافية، وعدم الشعور والتسليم بأن الأخر هو الأفضل في كل شئ .
وهنا لابد من التمييز بين التقليد والنقد للعناصر الثقافية . فالتقليد القائم على النقل بدون تفيكر وتدبير وفهم واعي يؤدي إلى الأمية الثقافية داخل أي مجتمع . سواء كان هذا التقليد داخليا – أي من السلف إلى الخلف – لكل مفردات الهوية الثقافية للمجتمع . أو تقليد خارجي – أي نقل السمات والعناصر الثقافية من مجتمع لأخر- داخل المجتمع الأم . وهنا تبرز أهمية النقد الذي يعني التفكير والتدبير والفهم الواعي لمفردات وسمات الهوية الثقافية للمجتمع . وعندها يظهر دور المفكرين والعلماء والباحثين وغيرها من وسائل إعلام ووسائل تواصل مختلفة ومتعددة، في عملية النقد للعناصر الثقافية التي تشكل في النهاية الهوية الثقافية للمجتمع .
وفي النهاية يبقي السؤال قائما ً، هل التعليم يمحو الأمية ؟ لتكون الإجابة : نعم . إذا ما أخذنا بالمفهوم الواسع للتعليم وعدم قصره على المدارس والجامعات والمعاهد . لأن التعليم من الأمور بالغة الأهمية في كل مجتمع ويجب ألا يقتصر على سن معين أو مؤسسة بذاتها، إذا ما أردنا للتعليم أن يمحو الأمية .