تستطيع أن تحدس وأنت تعبر، بالصدفة، الطريق الرابطة بين مدينة الوليدية والغربية القديمة على الساحل الأطلسي، أو ربما تتخيل أنك في منطقة استثنائية من البلد، تعصف بداخلك همزات فطرية، ويقفز عقلك الصغير، وكأنه يستجيب لشيء يسكن هنا، في هذه البقاع. ولن يخيب حدسك، فهذه أرض مشتراية التي يقرأ عنها المتصوفة في كل المعمور. لقد عاش فيها فيما مضى زهاء ألف من المتصوفة والأولياء والصلحاء الذين تركوا بصماتهم الكبرى في تاريخ التصوف بالمغرب. اطلب التسليم، فتحت كل شجرة قصة ولي، ومع كل حجرة حكاية حب إلهي، قال لي الدكتور المراكشي وهو يهم بتقبيل التراب. ثم أضاف وهو ينحني متأملا فيما يشبه البكاء: أنا الذي أعرف شأن هذه الأرض أزورها كل ستة أربع مرات. كان حذاء الدكتور مصطفى المراكشي الذي ترك زوجته وأبناءه في مراكش منذ مدة ورحل إلى بقاع مشتراية ينقب في تاريخها المنسي عما يضيء بحوثه، قد اهترأ، قلت له هل ستمشي حافيا حتى تصل إلى المركز الحضري، قال: لا تخف أنا معتاد على هذه الأمور، ومعي البديل. كان اليوم جمعة، والناس منشغلون بالصلاة، عندما وصلنا إلى الغربية القديمة. تحدث سائق السيارة "خطاف" عن الخيمة التي ولد فيها العلامة أبو شعيب الدكالي، وعن صيته وأهله وسلوكه، قلت له كيف عرفت عن الرجل هذه الأخبار، رد مستغربا من سؤالي: نحن أهله وعشيرته الكبرى، فكيف لا نعرف. فضل السائق أن ينتهج مسلكا ترابيا مخافة أن يوقفه الدرك، دون أن يراعي الحالة الصحية لسيارته البوجو القديمة. كان اليوم مواتيا لزيارة بقاع مثل هاته لها خصوصية طقوسية كبرى في المتخيل الشعبي. عرفت فيما بعد أن الدكتور يقصد رجلا لم يسبق أن عرفه، وحكى له بعضهم أنه الوحيد من أهل مشتراية الذي يمكن أن يفيده في بعض الأمور الدقيقة عن أطروحته. كان الرجل يدعى "فتح الخير" يشتغل مدرسا بإحدى المدارس الابتدائية النائية عن المركز الحضري، وأقام سكنا ضخما، وكون فيه متحفا شخصيا كبيرا يقصده الزوار من كل فج من المغرب، خاصة وأنه يهتم بتاريخ مشتراية، أرض الصلحاء. إذ راح يبحث، منذ مدة، عن النفائس ويخزنها في مكان فسيح مخصص لهذا الغرض. ومع أني لم أكن أهتم بمثل قضايا التاريخ التي يبحث فيها الدكتور مصطفى، فقد كنت أحب أن أستمتع بحديث الناس القدماء وحكاياهم التي لا تحفظها الكتب والمجلدات، لكني لم أندم، فقد أضفت إلى ذخيرتي معارف عن أهل الصوفية الشعبيين، مثلما خبرت أكثر حفاوة البدو وطيبة أهل مشتراية وكرمهم العربي. ففي الوقت الذي أنهينا فيه صلاة الجمعة، قام الخطيب، ونادى في الجمع: "يا أهل البلد، المشترائيين، اليوم عندنا ضيوف، باحثون من مراكش والجديدة، لنحتفي بهم جميعا" ثم انصرف، ليتهافت علينا الناس مصافحين مرحبين، استقبلنا الأستاذ الشيخ فتح الخير، مثلما يستقبل صديق قديم، وفتح لنا أبواب خيمته الكبرى، ثم، كفنان متمرس، راح يشرح لنا روائع المتحف: هذه لوحة لجان أثيل، وهذا صليب حقيقي، وهذا إسطرلاب، وهذه لوحة رسمتها بيدي هاتين بالعظام الحيوانية والعقيق، وهذه لوحة لمريم العذراء، وهذه خماسية قديمة، وهذا حذاء نابليون، وتلك قصعة من قصاعي أهل مشتراية، وتلك أواني من أوانيهم. وبينما الشيخ منهمك في الشرح هبت رائحة الكسكس من بهو الصالون العريض، ودون أن يلتفت دعانا الرجل، هيا جاء الغذاء، سنكمل الحديث بعد الزوال. كانت قصاعي الكسكس تملأ المكان، وكان الأهالي فرحين، تغمرهم سعادة كبرى وهم يحدقون في وجوهنا. غاص المراكشي في قصعة الكسكس وهو يدعو لأهل البلد، ونسي أخبار مشتراية وصلحائها، لكن أهل البلد سرعان ما أثاروا فيه لوعة الحديث فراح يتحدث عن الصلاح والنساك والمتصوفة في بلدتهم كأنما هو كان يعاشرهم، يعرف أساميهم، وتاريخ وفاتهم، ورحلاتهم، ومقامات دفنهم، فيما كانوا هم يستغربون، وبعد الكسكس جاء التين والكرموس الهندي والعنب والشاي، فكانت حفلة رائعة حقا من دون سابق إذن، وذهلنا لثقافة فتح الخير وسعة اطلاعه على تاريخ مشتراية التي يقطنها، ومنها أجداده وشجرة نسبه. وبعد قيلولة قصيرة، جاء وقت زيارة أسوار الغربية القديمة أو مشتراية كما يسميها أهل التاريخ، السور العملاق يحيط بالمدينة على بعد حوالي أربع كيلومترات مربعة، وهو مبني بالطريقة التي بنيت بها أسوار "الملاح" البرتغالي، وتتخلله ثقب كبيرة، كما أن أجزاء كبيرة منه تهدمت. كنا نتجول البقاع مذهولين، والشيخ يحكي لنا عن الطريقة التي أبيد بها سكان هذه المدينة المجاهدة. فقد حاصرها البرتغاليون لمدة طويلة من الزمن، وطلبوا السكان بالاستسلام لكنهم لم يخنعوا مفضلين الموت العزيز على الحياة المذلة، فاستشهدوا جماعيا تحت قصف المجانيق النارية العاصفة، ولم ينج منهم إلا نفر قليل من الصلاح كانوا في رحلات تجارية أو حجية. غيب الفناء حضارة عريقة وثقافة صوفية مميزة لم تسجل منها كتب التاريخ إلا سطور نادرة ومتفرقة بين المخطوطات وكتب التراجم، فيما أقبرت أخبار هذه المدينة وظل البعض الآخر تتقاذفه ذاكرة شعبية مشوهة. عشرات من الأضرحة والأولياء يرقدون على جنبات السور، وآخرون لم يكتب لهم أن يدفنوا بتربة البلاد، بعد أن أدركهم الأجل سائحين في أرض الله الواسعة. وبينما كنت أتجول في المتحف الشخصي لفتح الخير، أثارتني أشياء غريبة: لوحات فنية تشكيلية ومنحوتات لفنانين عالميين منهم: بيكاسو ليوناردو دافنشي وجان أثيل وغيرهم، سألت الشيخ فتح الخير عن عربة صغيرة يضعها على مكتب مكشوف، قال بلغة الواثق: تلك منحوتة لعربة قاتلة ابتدعها الجلادون في عصر ليوناردو دافنتشي، كانت آلة جهنمية تحصد رؤوس المدانين والخارجين عن الطاعة بينما هم يصطفون على جنبات الطريق الإسفلتي. كان متأثرا بينما هو يحكي، حيث أنهى حديثه عنها بطريقة آسفة، قال إن هذا الفنان الذي نحتها هو الآخر طاردته لعنة مجسمه، فمات معدوما بنفس الآلة. يا للمفارقة العجيبة، الشيخ يحكي التاريخ مثل خرافة. "فتح الخير" يحب الفن والثقافة ويفتح زاويته للعابرين والمجانين والباحثين وحتى الملعونين الذين لم يعد هناك ما يهمهم في الحياة. يقدم لهم الطعام والبسمات ويحكي لهم الأخبار عن "مشتراية" كأنه عايش تلك الأجيال البائدة. قلت كم هو غريب هذا العالم! وكم هو صغير! من ذا الذي يمكن أن يتصور رحيل لوحة لبيكاسو أو دافنتشي أو رواية لرجاء الصائغ إلى هذا الخلاء؟ لكن هذا أمر حقيقي، وتذكرت القول المأثور "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر". أما رواية بنات الرياض فقد كنت أحملها معي، بعد أن بعث لي بها مشكورا الروائي اليمني أحمد زين. عدت وأنا أقول في خلدي، كم نحن في حاجة إلى ان ننفض الغبار عن تاريخنا، إلى متى ننتظر الآخر الوافد، لكي ينبهنا إلى تاريخنا بالصورة التي يشتهي.