جون كيتس .. الأشهر الأخيرة لشاعر كتب اسمه على الماء !

2010-01-23

هل تكفي خمسة سنوات ليقول الشاعر كل ما يعتلج في نفسه من كلمات ؟
وهل مرضه ، عذاباته ،وعشقه كافية أن تؤسس له معبدا اراده أن يكون إغريقيا ليبث فيه بعضا من ألمه قبل رحيله ؟


قبل أن يغادر القرن السابع عشر لندن بخمسة سنوات ولد ( جون كيتس ) في محيط عائلة فقيرة جدا تعيش في نزل تملأه الرطوبة وقد عانت العائلة منهه، ولأنها لاتستطيع أن تغادره فقد خيم الموت عليهم ، كيتس أصيب بمرض السل الرئوي باكرا وهو المرض ألذي أودى بحياته عام 1821 ، ولما بلغ من العمر ثماني سنوات مات أبوه ليجد نفسه مع أمه لايملكون ثمنا لطعامهم فاضطر للعمل في تنظيف المداخن الذي زاد من مرضه ، إلا انه كان يتحامل عليه ويعود ليعمل في أشغال أخرى وذات يوم صارحته أمه بأنها ستتزوج ولم يمض على رحيل زوجها إلا شهران فقط فعاش وحيدا بعد أن هجرت أمه المنزل ، لكنها عادت بعد ست سنوات لكي تموت هي أيضا في ذلك النزل الكئيب .


كانت شوارع لندن في ذلك ألوقت تعج بالمتسكعين والسكارى والفوضويين إلا ان بعض فروعها لاتخلوا من أماكن محترمة تمارس النشاطات الثقافية والفنية ، فكان كيتس يحاول أن يتقرب من تلك الأماكن وتعرف بالفعل على بعض الأصدقاء الذين راحوا يمهدون له الطريق للدخول إليها ، فقد وجد نفسه يكتب الشعر لأنه لم يجد أمامه إلا كلماته كعزاء له لما مر به من نكبات وأصبحت قصائده مفروضة عليه ، لكنه لم يلق ترحيبا من متلقيه في بداية الأمر وانهال عليه النقاد بالشتيمة والإستهزاء ، وكان من الممكن أن يقتلوا رغبة الشعر فيه ، ولكن ذلك النقد ألذي تلقاه منهم قوى من عزيمته مثلما فشلت المصائب والنكبات بالنيل منه .
يقول في قصيدة " المرأة الجميلة بلا شفقة " وفيها يتحسر على المرأة ألتي أحبها ولم يستطيع أن يتزوجها ، فقد كانت " فاني براون " أول قصة حب فاشلة في حياته بعد أن بلغ مرحلة الشباب يقول فيها :
أيتها النجمة الساطعة
هل أستطيع أن اثبت مثلك في مدار وأستريح ؟


وفي رسالة كتبها لبراون يبثها وجده وألمه الذي استحال إلى بؤس وأمل مفقود يقول : ( هذه اللحظة أحاول تذكر ابيات لكن من دون جدوى ، عليّ ان اكتب لك سطرا أو اثنين لأحاول ان كان ممكنا إقصاءك عن ذهني ، لكنني في اعماق روحي لااستطيع ان افكر بأي شيئ آخر .. انتهى الوقت الذي كان لي فيه .من القوة الكافية التي تمكنني من نصحك وتحذيرك من الصباح الخالي من الوعود لحياتي ، فحبي جعلني ذاتيا ، انا لااستطيع ان اوجد من دونك ، انا مهمل لكل شيئ عدا رؤيتك ، ويبدو ان حياتي تقف عند ذلك ، انا لااستطيع ان أرى ابعد من ذلك .انت تشربتني ، لدي احاسيس كأنني في طور الذوبان ، سأكون في غاية البؤس من دون الأمل في رؤيتك قريبا، سأكون شديد الخوف اذا فصلت نفسي بعيدا عنك ، هل قلبك لن يتغير ابدا ؟ بالنسبة لي ليس هناك أي حدود لحبي لك .. والى الأبد .. جون كيتس ) .
بعد ان شعر بأن حبه الوحيد قد تلاشى كما تتلاشى الغيوم في السماء حينما يلوح لها من بعيد ضوء الشمس ، يقول في إحدى قصائده :

على امتداد الكلمات
تزفر المعابد دخانها ممتزجا
بصلوات الزمن الأنجليزي
فيما العيون الهزيلة احواض
يغمرها
الجليد
على مقربة منها ،
يزحف
الموت
مصحوبا
يجر ذاته الملطخة بثياب الجنازة
.. اي حب كان هناك
ليندفع صخرة حمقاء باتجاه
فاني براون
.. لا
ليس إلا القصيدة تشق الضباب
كعربة دفن الموتى
.. وهناك
أي في الجزء القاحل من الريح
يسقط الليل من نوتة العقل ،
جملة موسيقية ترتج بالنحيب
اللانهائي
احس كيتس انه مفارق الحياة لامحالة وهو في سنه هذا، لأن المرض والسقم يسحبانه وبقوة الى الهلاك ، يقول الدكتور " جيمس كلارك " :

 ( حكمت مبدئيا بأن الاجهاد الذهني والمرض الذي ترك بصماته عليه ، كانت مصادر شكواه والتي بدت على رأسها الآلام التي كان يشكو منها في بطنه )، رغم ان كلارك اشتبه بأن الذي يشكو منه هو القلب الذي نتج عن مرضه السابق في الرئتين ، كيتس وعلى حد تعبيره يقول ان كلارك شخّص ذلك الإستهلاك الواضح على جسده، فكتب له حمية التجويع مع قطعة من الخبز يوميا لقطع تدفق الدم الى معدته لكنه طلب من صديقه الوفي " جوزيف سيفيرن " وهو في طريقه الى روما شراء زجاجة من الأفيون لاستخدامها بمثابة مسكّن للألم الا ان سيفيرن ساوره شك بأن صديقه الشاعر قد يسعى للإنتحار فلم يلبي طلبه ، وعند وصولهم روما حاول كيتس مرة اخرى شراؤه، يقول صديقه انه شعر بمأزق حاد وفي نهاية المطاف ذهب الى احد الاطباء الذي رفض هذا الامر مما اغضب كيتس ورمى قدحين من القهوة كان قد اعدهما صاحبه بوجهه ، احس بعدها سيفيرن ان صديقه الشاعر لايعاني فقط من الألم الجسدي ولكن ايضا الألم النفسي والكرب العاطفي،  وعندما توفي في يوم 23 فبراير / آيار 1821 كان اعتقاد كيتس انه فشل فشلا ذريعا كشاعر وطلب من صديقه المخلص قبل وفاته ان يكتب على قبره العبارة التالية : ( هنا يرقد انسان كتب اسمه على الماء ) *


الآن اصبح المنزل الذي مات فيه متحفا يدعى متحف كيتس- شيلر ويزوره الناس الذين احبوه وتعرفوا على معاناته ، وعندما سمع صديقه الشاعر " شيلر " بموته جن جنونه وكتب اجمل مرثية يمكن ان يكتبها شاعر لشاعر آخر، ولم يلبث شيلي ان مات طالبا من اصدقاءه ان يدفنوه الى جانب كيتس أو في نفس المقبرة على الأقل، وهو يرقد رقدته الأخيرة لازالت كلمات شعره يتردد صداها :


انظر هناك تراني
على الغصن الأبيض
على الغصن الأحمر
انظر أعلى لتراني
على الفرع المثمر
تتراقص الحاني
منظومة من سحر بياني
تخفف حزن الانسان
كفاك دمعا ونحيب
بالله يكفي
فالورد سيزهر في العام القادم .*
هوامش
* اليسون فلوود / كاتب انكليزي
*صحيفة / الغارديان اللندنية
*مقاطع من قصيدته ( كفاك دمعا ونحيب )
أحمد فاضل
ahmedfadhell@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved