(1)
من سلطات القراءة انها تنتمي الى المتغير .
فما من قراءتين متشابهتين، سواء للقارئ الواحد، أو لمجموعة القرّاء . فكل فعل قراءاتي لابد له من امتلاك خط شروعه الخاص به، والمختلف عن سواه . ولكل فعل طالع من القراءة اتجاهات ومفروزات واستقبالاته .
هذه الخصوصيات كثيرا ما تظهر بفعل التراكم المعرفي للمتلقي، وبفعل التنوع المعرفي الذي يشكل معظم محمولات النص .
وكما تفرز المواءمة قراءاتها كذلك الحال مع التناقضات .
تعدد القراءات هذه، وتعدد منتوجاتها، هي التي تشكل الأداة التي لها إمكانية تشغيل/ تفعيل النص، وتحويله الى مجموعة بؤر تمده بالقدرة على منح القارئ أفعالا مغايرة، تمنحه التاريخ وتجرده من النسيان.
من ذا صنع، أو أنتج، أو أتى بالآخر الى الوجود/ الواقع .
القراءة التي هي أولا، وهي التي دفعت بالانسان الى ابتكار الكتابة كشكل من أشكال الإشارة/ الصور التي تتحول الى أصوات ومعاني . الكتابة التي جاءت متأخرة – قبل خمسة آلاف عام أو يزيد – عن مرجعيتها/ القراءة بمفهومها المعاصر، والتي كانت وعلى طول التاريخ الذي سبق هذا الابتكار/ الكتابة .
فالقراءة فعل رافق الانسان منذ لحظاته الأولى في امتلاك الوعي والقدرة على الفرز والتميز وتحويل الصورة الى مفاهيم معرفية.
هل القراءة هي التي منحت الانسان التاريخ ؟
أم إن الكتابة هي التي منحت الانسان بتعدد مستويات امتلاكه للمعرفة منحت الانسان القدرة على التشبث بالفعل القراءاتي، ليتمكن هذا الكائن من إعادة تصنيع العالم !!
ورغم التكافل في صناعة الانسان تظل الكتابة فعلا غير ذي بال ما لم يلازم القراءة .
لقد تمكن فعلا القراءة والكتابة من إحداث طفرة/ قفزة في سلم الوعي والمعرفة الحضاريين – بسبب وقوعهما تحت سلطة القصيدة والبرمجة . ورغم توفر القراءة، هذا المفصل الذي ينتمي الى الفعل الفردي/ الشخصي إلا أن الكتابة استطاعت الوصول الى حركة المجموع، وبذلك ظهرت الى الوجود بنية المدرسة/ المعهد، وبنية التعليم/ الاستقبال الجمعي. ولتتحول الكتابة بفعل المعارف الى منتجة للقراءات، وبذلك فقد الانسان اللاقارئ/ الفاقد لخاصية القراءة – قدرته على إقناع القارئ بقوة كتابته، وبذلك استطاع الشاعر أن يحول الكتابة الى فعل اكتشاف كما هي الحال مع القراءة ذاتها .
(2)
( مقداد مسعود ) واحد من الشعراء القلائل الذين يعتمدون المعرفة الواقعية، وكذلك المعرفة المتخيلة في الكتابة، حتى تحول البعض من مفاصل الفعل الشعري الى شيء يحسبه القارئ/ الناظر وهماً .
الكثير من الشعراء الذين يمارسون الكتابة في الأمور الثقافية مرة، وما ينتج عنها من قراءات نقدية، ومن أحكام وقرارات، شعراء كهؤلاء لا يمكن محاذاتهم من خلال القصيدة التي يكتبونها فحسب – وبالتالي يعملون على إدخال القارئ في مصيدة القراءة . قراءة ما يصدر عنهم من مواقف ثقافية، ومن أحكام نقدية ومن آراء في أجناس أدبية وإبداعية .
قد يكون الشاعر والناقد مقداد مسعود، والشاعر الناقد جمال جاسم أمين، والشاعر خزعل الماجدي - رغم الوجود الواضح لسواهم – من أكثر النماذج المثقفة، والمتعلمة قدرة على صناعة اختيار التلقي، أو في استقبال القارئ لكشافاتهم .
ثلاثة من الشعراء لم يستطع الفعل الشعري أن يلبي طموحاتهم، ولم يستطع أن يستوعب – لوحده – ما يخزنون من معارف، ليتحول الفائض من خصائص تنويرية الى حقول مجاورة لفعل الشعر. فكان النقد أو الكتابة الثقافية أو المسرح أو السينما أو التراث الميثولوجي للأقوام .
***
بين يدي هذا الشاعر أو ذاك المثقف/ الشاعر تتوسع الآفاق، وتتعمق المدارس، حيث يتحول هذا الكائن الى مجموعة كشافات – لم تكن فيما سبق من مفاصل الكتابة الشعرية –
لذ لم يكن الشاعر قبيل القرن العشرين ملزما بما ينتمي الى الثقافة بتعدد مصادره، بل كان الاهتمام السائد آنذاك منصبا على أن يكتب الشاعر القصيدة، وعلى أن يلقيها من على المنبر وسط مظاهرة احتجاج أو تجمع جماهيري، وكفى الله المؤمنين شر القتال . والقتال هنا فتنة المعرفة وما تنتج من تلق وبحث واستقراء ومحاولة وضع اليد على تأثيرات الحقول الأخرى المجاورة لحقل الشعر .
***
لقد كان ( مقداد مسعود ) من القلة القليلة التي مازالت تصر على إنتاج المختلف في حقل الشعر خاصة، مع إصراره على متابعة حقول المقاربات النقدية سواء في الشعر أو القصة أو الأمور الثقافية .
إلا أن الفعل الشعري هو الذي سيكوّن أكثر من طموح وأكثر من هم، من أجل صناعة انجاز شعري يعتمد تدمير جدران القصيدة الكلاسيكية وبينتها الداخلية وكل ما ينتمي الى تأثيثاتها، سواء كانت هذه القصيدة – الكلاسيكية – العمودية التي بات عمرها يتجاوز الألف وخمسمائة عام إن لم يكن أكثر من ذلك أو قصيدة التفعيلة التي تجاوز عمرها المائة سنة أو أقل بقليل، والتي شاخت قبل أوانها على يد الكثير من الشعراء الذين – أحبوا الضلالة على الهدى –
القارئ الاعتيادي، قارئ الشعر عامة، قد لا يكون معنيا بهكذا إجراءات، أو مقترحات، أو توجهات تنتمي الى مفصل من جنس ما، ربما يكون ذا خصوصية منفردة .
التجارب المتشعبة أو المزدوجة، الشعرية، النقدية، الثقافية، والسردية من الممكن أن تمثل تجارب استثنائية . فالقارئ غير مطالب بأن يدخل مدخلاً صعباً، فتجربة هذا الشاعر أو ذاك، الكلانية قد تهم النقاد والمتابعين والمثقفين ومن ابتلاه الله بحرفة الأدب .
(3)
ما يميز ( مقداد مسعود ) - وهو ما يجب أن يحصل لجميع الشعراء/ المبدعين – عن سواه من حشد الشعراء، وربما هي حالة يتميز بها المبدعون عامة – حيث يعمل الشاعر الواحد على صناعة التفرد، وبالتالي الخروج من الشراكة الشعرية، أو الانفراد بالتجربة الإبداعية .
و( مقداد مسعود ) شاعر مغامر، شاعر ينتمي الى التجريبية في الكتابة، أي إن هيكل القصيدة/ البنية الخارجية والداخلية – ابتداء من العتبة/ البوابة، حيث خط الشروع، وصولا الى الوحدات/ الفضاءات الشعرية المنفتحة على بعضها أو تلك المنغلقة على نفسها – والتي تشكل وحدات شعرية تكاد تكون متكاملة أو مكتفية بما لديها – كما هي الحال مع بنية البيت الواحد داخل القصيدة العمودية – تجارب تكاد تكون مستقلة عن بعضها رغم تداخلها أو رغم تجاوزاتها .
واذا ما كانت المغامرة تشمل أكثر مفردات النص الشعري، أكثر العبارات والصور، مع وجود رغبات عدة جامحة في طرد المفردات الفائضة عن الحاجة والصور المتداولة التي استهلكت مدخولاتها، أو العبارات الفاقدة لسلطة الغواية .
هذه المفاصل التي تدفع بالشاعر الى اقتناص المفردة، وعدم الانجرار وراء النطيحة أو المتردية من التجارب، أو الركض خلف جماليات اللغة العربية المتوفرة في كم هائل من الأسماء والصفات والأحوال والمضافات والمجرورات ومن ثم الإبقاء على ما يزيد التجربة اقتصادا أو اختزالا، حتى تتحول القصيدة الى قصيدة لنوع خاص من القراءات، لنوع من الكتابة المعتمدة على ضرورة الإبقاء على الضروري والتخلص من زوائد الكتابة، على الرغم من إن هذه الزوائد ولدى الكثير من الشعراء لا تخرج عن قانون الحشد الفني الإبداعي، وتحويل البخل – وضيق ذات اليد – في الصور والتراكيب الى شيء من الإفاضة في صناعة الغواية، وتحوي النص الشعري الى مجموعة من البؤر المنتجة للحرائق .
(4)
هل يكفي توفر النية الحسنة – وكما يقال العمل بالنيات – من أجل صناعة القصيدة ؟ وهل تكفي البراءة وغياب المكر في صناعة الغواية من أجل صناعة القراءة ؟ وهل بإمكان الشعراء - جلهم أو بعضهم – الاتفاق – من أجل أن لا يتفقوا – على الوصول الى نهايات الكتابة ؟ أي الاتفاق على نقطة الشروع بالبدايات أو على الوصول الى النهاية ؟!
ومن أجل أن لا يُظلم الشاعر أو الشعراء ومن اجل أن نمنح القصيدة حقوقها، لابد للقارئ من أن يكون جوابه من اجل إثبات ذلك نافياً .
هذا النفي يبيح للكائن – بشريا كان أو شعريا – الابتداء والانتهاء، وفقاً لما يمتلك من تناقضات أو تقاطعات أو توافقات مع الخزين الثقافي والمعرفي الذي سيكون مادة القصيدة وحيزها، وبذلك يتصاعد الاختلاف وتجتهد القصيدة في صناعة مساراتها.
( مقداد مسعود ) يبدأ مشروعه الشعري ( جياد من ريش نسور ) من عند لحظة تطويع الأسماء النكرات، من أجل تحويلها الى معارف، وسط جعبة القارئ، ولأن الأسماء هنا نكرات ( جياد، ريش، نسور ) ورغم الإضافة – المضاف والمضاف اليه – ريش نسور – أي إن الشاعر يضيف نكرة الى نكرة إيغالا في التعتيم، لتظل الاعلام/ المعالم بعيدة عن الحراك، من خلال تفعيل/ تحريك الاسم النكرة، وبسبب علة التنكير هذه يظل الاسم الواقف خارج مفهوم العلم ممتلكا لخطاب الغموض، ولا مفر من التعامل معه وفق قوة المغاليق التي يمتلكها . هكذا يتحول العنوان الى مشروع تفكيكي لابد للقارئ من إنتاجه والاستفادة من محتويات صناديقه السوداء .
( جياد من ريش نسور ) عبارة مستلة من قلب القصيدة (2012) ص6، استطاع الشاعر أن يضع إصبعه عليها لما تمتلك من قوة الإيحاء، ولما يمتلك هو/ الشاعر من قصدية في صناعة شيء ما ينتمي الى الامتحان أو الغواية أو الاستفزاز، أو الى أي شيء من الفنظازيات/ الغرائبيات، التي كثيرا ما تثير حفيظة القارئ ( مع أو ضد ) ليركب معارفه باحثا عما يوجد خلف الزجاج المضبب، أو ما خلف العتمة/ الدخان من حرائق .
***
في ( جياد من ريش نسور ) يعمل الشاعر ( مقداد مسعود ) على تعميق العلاقة ما بين القارئ من جهة، والنص والشاعر من جهة أخرى .
قد تدفع علاقة من هذا النوع الى شكل من أشكال الاتصال، حين يكون القارئ عند حافة التجربة القرائية، أو الى شدة الفعل الاختزالي الذي قد يجد القارئ نفسه ضمن حالة من العزلة، أو إن خزين القارئ قد لا يتوافق مع مفروزات النص الشعري، ومن الممكن أن يكون العكس هو السائد، حيث يتحول القارئ الى سندباد، والنص الى مخيال جامح، والمعارف الى عوامل مساعدة توفر للقراءة حالة من الدلالات التي يتماهى خلفها فعل شعري يمتلك من التفرد ما يغري بالذهاب بعيداً في محيط النص .
واذا ما ساد في يوم ما مصطلح أو مفهوم القاموس الشعري لشاعر واحد أو لمجموعة شعراء، لجيل متفرد، أو آخر مختلط، فهذا يمتلك من القواميس الأسطوري والأخر التاريخي، والثالث الانثروبولوجي، والرابع الايروسي، والخامس التراثي، وسواه الكلاسيكي.
فبعد انتشار المعارف ومشاعيتها والتي استطاعت أن تزيل/ مدمرةً جدران العزلة ما بين الحقول والأجناس فما عاد يميز الشاعر مجموعة ألفاظ أو عبارات أو تراكيب أو شخصيات معاصرة أو تراثية، تنتمي لأساطير الشرق أو الغرب أو تنتمي لتلك الأقوام أو لهذي الشعوب، وما عاد الاحتكام الى ثقافة ما بعينها تشكل شيئا من الحماية، رغم أن الخصوصية المحلية تشكل ملمحا مهما وأساسيا في صناعة التجارب الشعرية الفردية كانت أو الجمعية، ولكن بعيدا عن الانجرار الى شيء من التطرف في الانتماء الى الشخصانية مع الابتعاد عن الاتجاه العام لحركة الانسان والتاريخ، حيث تتحول فضاءات المجرة الأرضية الى مجموعة أزرار، أو مجموعة وسائل اتصال قادرة على إلغاء التباعد وتحويل الهوامش الى مراكز، وتوفير المعلومة والمعرفة ضد لحظة ولادتها ولتتعدد المفاهيم وتسود المغايرة .
(5)
في معظم تجاربه الشعرية يعمل ( مقداد مسعود ) على أن يترك بعض موجوداته من غير الإشارة اليها، أو من غير استنفاذ مخزوناتها .
لم يكن ما يترك من المهملات، أو ممن لا يرجى منه شيء ما، فالحياة بكل تفاصيلها تمتلك مبررات وجودها، حتى التي تقف بالضد من طموحات الحياة نفسها .
( مقداد مسعود )
لم يعد في حياته ما لا يستحق الحراك، باتجاهه، وتهيئته لتجربة جديدة، كليا على المتلقي، أو انها تحمل آثارا لتجارب أخرى .
لذلك لم تكن تلك الإشارات الموجهة نحو الماضي ذات دلالات تؤشر الى وجود خمول لبعض أطراف تلك التجربة أو لتلك سواها، بقدر ما تؤشر على أن ما تبقى من التجربة مازال يمتلك من البؤر ما يؤهله لصناعة الحرائق/ القراءات .
أي إن الحياة ذاتها مازالت قابلة لصناعة التنوع، عبر تأهيل مفاصل مستجدة، مفاصل كانت في يوم ما على شكل أفكار أو مقترحات، كانت في يوم ما مجرد خطوط على ورق، لتتحول بالتالي الى أحلام قابلة، لا يختلف بعضها عن سواه من مشاريع الحياة .
وكثيرا ما يعمل ( مقداد مسعود ) على البحث عما خلف المفصل الذي استحدث في محاولة لدفع المتلقي من اجل الخروج من قراءة أولية والدخول في قراءة أو قراءات جديدة، تنتمي الى الاختلاف لا الى اجترار المواقف والنتائج، بعد أن تغيرت الأسباب والعلل بسبب التبدل الذي يصيب مراحل الاستقبال، والذي سيؤدي بدوره الى نتائج مغايرة، قد تكون مناقضة لما هي عليه في السابق .
( مقداد مسعود ) منتج نصوص شعرية لا يمكن أن تشعر بالندم على نصوص سبقتها، نصوص من محتوياتها غير الاكتمال، فما من تجربة أولى أو عاشرة تنتمي الى النضوج أو الى التكامل.. لأن مفاهيم التجربة الناضحة أو التجربة المتكاملة لن تكون سوى حالات سوء فهم لأن الاكتمال والنضوج دلالة على انغلاق التجربة وتحجيمها، وبالتالي موت التجارب المنفلقة عند النقطة ذاتها والتي انطلقت القصيدة من عندها . إنها التجربة التي لم تترك فرصة للقارئ في أن يمسك بمقود النص ولو للحظة واحدة أن تتحول القصيدة الى نسق شاطب، حائز على لحظة الإلغاء التي يجيء على يد ما يسمى وهم الاكتمال أو النضوج والذين لا يعقبهما سوى تلف الأنسجة وتحول المادة الشعرية الى نفايات .
***
قد ترفض تجارب ( مقداد مسعود ) التعريفات، أو تمتنع عن الدخول في هذا التصنيف أو ذاك لتظل العملية الشعرية بمعناها الأوسع ومناخاتها المتعددة هي المرجعية الأولى والأخيرة لتلك الممارسات .
ليس بسبب كون هذه التعريفات والتصنيفات ربما تشكل نسق تناقض لدى البعض فحسب، بل لأن الشاعر يعمل على أن يكون متفردا وسط القصيدة لا أحد يوازيه، أو يحاذيه إلا ضمن العملية الإبداعية .
وقد تكون الأنثى الكائن الوحيد الذي يقيم منازله في قلب الشاعر، أو في قلب القصيدة .
إذ أن من أعراف الشاعر المعاصر إن التعريفات لن تكون سوى سيف ( ديموقليدس ) الذي لابد من وقوعه على رقبة النص .
فالتعريفات ما هي إلا عملية تحجيم للإبداع وإلغاء للمحمولات، والشطب على المغامرة، فالنص بين يدي الكائن المبدع كائن غير قابل للرصد، لأنه مثقل بالحياة، ولن يكون في يوم ما مجرد جثة جميلة محنطة .
معظم التجارب الشعرية الناجحة، والتي تمتلك خصوصيتها الطالعة من خصوصية الشاعر نفسه، حيث الإضافات، حيث ساحة التقويض للنمطية والأنساق، تجارب كهذه لابد لها من امتلاك خصيصة التواصل، إذ لا انقطاع/ لا عزلة بين مفردات التجربة الواحدة، أو مجموعة التجارب السابقة واللاحقة .
( مقداد مسعود ) كثيرا ما يوعز أو يوحي لقارئه بوجود تجربة سابقة ولابد من وجود تجربة لاحقة، وكل من التجربتين تمتلكان جسورا بما تكون وبما ستكون الكتابة غير المنقطعة عن الجذور. انه يبشر بوجود قراءة بتلك المواصفات، لذلك على القارئ أن لا يدخل فضاء القصيدة وهو خالي الوفاض – كما يقال – وغير محمل بمواقف وتوقعات لا تنتمي للقراءة التي سوف تكون بمفردها وسط مياهها، رغم أن الكثيرين من المبدعين سوف يكونون حاضرين الى جانبه، عبر ما استطاعت قراءة أعمالهم من توفير مستندات تشعره بأنه يمتلك من قدرات لتعطيل الأنساق الشاطبة، والانتقال الى مرحلة التكوين .
حيث يعبر من النص ذاته بقوة القراءة، ووفرة المعارف، ومن قوانين الكتابة لدى ( مقداد مسعود ) أن يقرأ النص قبل تدوينه وان الذي لم يكتب بعد لن يدخل الخدمة ما لم يكن حائزا على مرتبة من مراتب الفعل الشعري لدى الشاعر .
***
في ( جياد من ريش نسور ) يطلق الشاعر (مقداد مسعود) صرخته هو التي بحجم العالم، صرخة على شكل إشارة، ليضع إصبعه على الجرح .
هذا الفعل الذي جاء على شكل ( ثمرة شوكية ) مازالت ومنذ بدء الخليقة تأكل في جسد الحصان .
[ واذا ما كان لسيزيف صخرة يحملها على كتفه فـ ( مقداد مسعود ) لديه ( ثمرة شوكية) مدسوسة تحت سرج حصانه ] .
لتتحول الى حشد من الممنوعات التي تحول دون انطلاق الفارس الذي يعتلي فرسه والذي يقطع الطريق الذي تحول بدوره الى خنادق قتال ومقابر وثكنات .
هل على القارئ أن يلتحق بركب الشاعر؟ ليتمكن من الإدلاء بشهادته ! من أن العالم مازال يواجه نهاية ذات احتمالات متعددة .
ولأن الثمرة لم تكن كائنا خرافيا، بل ثمرة، أي إنها فعل ينتمي الى الأرض/ الى الانسان، كائن مخلوق هكذا جاء وهكذا سيكون، هكذا تشكل الثمرة الشوكية/ الطرف الثاني من معادلة بقاء العالم، يمارس حياته وسط حالة من الاطمئنان، على الرغم من أن الثور الذي يحمل الكرة الأرضية عند طرف أحد قرنيه – قد يصحو – اذا ما تم اعتبار الصحو حالة جنونية، في أي لحظة ليجد الكون/ العالم نفسه وسط لحظة قلق شديد .
هل الحكمة والعقلانية وعدم إثارة الثور، وتحويل انتباهاته الى أمور جانبية، هل كل هذا يشكل حلولا للمعضلة، أم إن اللاابالية وترك الأمور على عواهنها، وليحدث ما يحدث هو من الحلول المقترحة، أم إن البحث عن أسباب صناعة ( الثمرة الشوكية ) أو عن أسباب وجودها تحت سرج الحصان .
– هنا الثمرة تتحول الى كائن مطموس غير مرئي – ولماذا تكون بهذه الإشكالية ولم تكن خارجها .
من الممكن أن يجد الانسان الفرد ومعه الكثيرون والمعني تحديدا بتغيير العالم نفسه بمواجهة الموت مرة، والحياة مرات، بمواجهة حالة من العبث، أو العدم، حالة من حالات السفسطة مرة والفلسفة مرة أخرى .
***
( مقداد مسعود ) من المعنيين أولا وأخيرا بإعادة تشكيل الكون/ الحياة، فهو لا يطلق الصرخة أو الاستغاثة أو التحذير من أجل ترك القارئ وحيدا وسط التيه، وسط تساؤلات لا تنتج غير مجموعة هائلة من الإجابات الخاطئة، لكي تبدأ عملية البحث عن الإجابة اللاخطأ .
(6)
واذا ما كانت الصفحة الخامسة خالية من عنوان ما – رغم وجود المتن الشعري – والذي سيمتلك عتبته في الصفحة (102) حيث الفهرست .
( القارئ ) وسط حقل الكتابة سيجد نصا من غير بوابة، ومن دون رواق من غير مظلة – السماء والطارق – هكذا هو المتلقي – والذي سيجد نفسه لاحقا مع – المفتتح –
اذاً من هنا – المفتتح – سيكون خط الشروع بالفعل القراءاتي .
- فرس وفارس، طريق وثمرة شوكية، وشاعر – أي من المفاصل الخمسة بقادر على التنازل عن حقوقه، والعالم/ الكون وفي الكثير من مفاصله قائم على اغتصاب الآخر .
إلا أن الشاعر قد يتنازل عن حقه الشخصي من اجل تحقيق الحياة رغم عيوبها، وسوءاتها . تلك الحياة التي سوف تظهر وضمن فعل قصدي – على الصفحة الرابعة من الغلاف بعد أن ظهرت وبشكل تجريدي يتصدر لوحة الغلاف – حيث حاول الفنان التشكيلي ( صدام الجميلي ) أن يمنح الفارس والفرس، أن يمنح مجموعة الفرسان المنهكين أشياء من العنفوان، من اجل التخلص من أشواك الثمرة/ الحياة .
هل بإمكان القارئ أن يستقبل ( المفتتح ) من غير أن يتحسس البعض من مفاصله ؟ أن يتلمس ما تحت قميصه من ندوب وطعنات، وما تركت الثمرة التي لم تكن في يوم ما إلا بعض الأنساق الشاطبة، وبعض المهيمنات المنتمية الى الثوابت والمنتجة لـ ( جرائم وردية ) والتي كثيرا ما تعمل على زراعة تلك الثمرات الشوكية، في دواخل الانسان الطيب .
يشكل المفتتح.. وما ينتمي الى الخاتمة غير المحجمة، والواقفة خارج المتون هل يشكل المفتتح والخاتمة بنية تشكيلية لا تدل عبر عناصرها إلا على بعض حالات النفي، وبعض حالات الإثبات، وصولا الى الحقيقة المدربة على التماهي تحت السرج .
القراءة ببعض معانيها سوف لن تغادر المفتتح بسهولة، فالشاعر يكشف عن بعض أسراره ويطمس البعض الآخر.. بل ستترك - القراءة – الكثير مما ينسب اليها، ستتركها عند ( مربط الفرس ) لكي تبقى الذاكرة متوقدة . ولكي تبقى الثمرة الشوكية على يقين من أن الآخر سوف لن يكون كل الضحية ولابد للشاعر من الدخول في جوف المغامرة، من اجل أن يتشكل حصان من غير سرج، فـ ( جياد ) الشاعر والتي سوف تتشكل من ( ريش نسور ) سوف لن تدخل حوض التدجين ولن تتحول الى مادة للمراهنة بل سوف لن تكون لسوى الفرسان .
***
هل هناك علامة ما ما بين المفتتح ص5 وقصيدة (2012)
"وحدك..
من وهبتني أبواب قطيفة..
أنخابا من لوز
سرودا من ريش نسور
مركبة من سرمد المسرات: ص8.
وعلى القارئ أن يكون على يقين من أن الشاعر سوف لن يتركه وحيدا من غير إشكالات قراءاتية، إذ أن استقلالية النص/ القصيدة أمر غير وارد فالتجربة الواحدة، أو مجموعة التجارب من الأمور التي يتكون منها المشغل الشعري لـ (مقداد مسعود) إذ كثيرا ما يتوجب على القارئ أن يضع النص الشعري موضع النص السردي، والمفصل الذي لم ينجزه الشاعر في الصفحات الأولى سوف يكمله في الصفحات الأخرى. قد لا يجد القارئ بوصلة تدله على ذلك، ولكنه سوف يجد إحساسا يشير الى ذلك.
على قارئ ( جياد من ريش نسور) أن يكون قارئ سرود، ليتمكن بالتالي من محاكمة النص، حول ما يؤجل الشاعر من مفاصل النص التي سوف تشكل حالة استرجاع في نص آخر .
فنصوص/ قصائد الجياد هذه لن تكوّن حالة انفصال عن بعضها، رغم الاستقلالية الواضحة، إلا أن تلك الحلقات رغم اكتمال دوائرها عن بعضها، إلا أنها لابد لها من أن تشكل سلسلة حلقات/ سلسلة قصائد، وضمن حالة من التكافل الشعري، لكي تتشكل التجربة شبه المتكاملة. وسيجد القارئ وفق ما يمتلك من نباهة وقدرة الربط والبحث عن المتروك عمدا من قبل الشاعر، أو وجوبا من قبل النص، من اجل صناعة قراءة للفعل الشعري، قراءة لا تعتمد الخط المستقيم أو المسطرة، في الربط والتشكيل والمصاحبة .
فبقدر ما يمتلك القارئ من تجربة تخص فن القراءة وشروطه، فهو لن يكون كذلك عندما يحاول أن يجاري ( مقداد مسعود ) .
هل يمتلك الشعراء سلطات على المتلقين؟ لا عبر الإشارات والتوجيهات والمقدمات التي تقف خارج النص والتي تعتبر تدخلا في شؤون القارئ والقراءة كذلك، بل إن السلطات تطلع من النص الشعري، والذي سبق وان تخضع لطموحات الشاعر في صناعة قارئ يقترب قليلا أو كثيرا من الشاعر نفسه، قد يكون الإبداع عبر المغايرة والاختلاف من أهم تلك السلطات .