نعيش ونحن على بعد أيام قليلة لتوديع سنة منتهية بحلوها ومرها، ولنستقبل عاماً جديداً ندعوا أن يحمل بدايات أفضل، ووعوداً جديدة معبأة بالخير والأمان...
بهجة الاحتفالات برأس السنة الجديدة،عادة متوارثة منذ القدم، يقال أنها تعود إلى أكثر من 500 سنة بعد ميلاد المسيح بن مريم عليه السلام، حيث تكون قد عرفت في حوالي عام 1500 في ألمانيا أولا، لتمتد إلى كامل دول القارة الأوروبية بعد مرور قرن من الزمان، وتنتشر لاحقا إلى القارتين الأمريكيتين ثم إلى دول العالم، ويقال أن أول احتفال بمولد المسيح أقامه القديس يوسف في العام الأول من ولادة المسيح بمدينة الناصرة مسقط رأس السيدة مريم العذراء، وبها بشرت بمولد السيد المسيح، حيث ولد بها وقضى فيها معظم سنين حياته، حتى نسب إليها، إذ كان يدعى بالناصري، ومنها اشتق أسم النصارى، وهناك وثائق تذكر أن أول من احتج على إقامة هذه الاحتفالات في دول العالم هو المصلح الديني" فون كايزر" حيث أعلن احتجاجه في خطبة ألقاها من أعلى برج أحدى الكنائس في ألمانيا عام 150، وهاجم فيها بشدة ما اعتبره بدعة جديدة تتمثل في تزيين صالة الجلوس بالبيوت في يوم ميلاد المسيح من كل عام بأغصان الصنوبر، إلًا أن احتجاجاته لم تلق آذانا صاغية، بل بالعكس واصلت الكثير من العائلات الألمانية إقامة الاحتفالات بصخب أكبر، حتى كان الكثير من الفتيان والفتيات يقتطعون المال من مصروفهم اليومي طوال السنة لشراء ما أصبحت تسمى صراحةً وجهراً " بشجرة الميلاد " وشراء كعكة العيد وملحقاتها من أشرطة الزينة الملونة التي يقال أن أول من وضعها هو أحد الرهبان البروتستانتيين خلال احتفاله البهيج الذي أقامه مع أفراد أسرته بالمنزل الذي يملكه بمدينة ستراسبورغ عام 1605، حيث وصف حينها الاحتفال بأنه " رمز للتواصل وتجديد الزمن " .
عيد الميلاد المجيد في التاريخ هو يوم 25 ديسمبر، ويذكر علماء الفلك أنه يوم الانقلاب الشتوي، حيث تصل فيه الأرض إلى آخر مدى لها عن الشمس ويكون النهار في أقصره، وفي اليوم الموالي تصعد الشمس، لذلك كان يعتبر هذا اليوم، يوم ميلاد الشمس، وقد احتفل به الوثنيون كعيد آلهة الشمس، واستمر ذلك إلى أن ظهرت المسيحية .
تمثل شجرة الميلاد في نظر الملايين من البشر في العالم رمزاً مقدساً عرفته وتعاملت معه شعوب الحضارات القديمة، فزين سكان روما منازلهم وشرفاتها بالأشجار في احتفالاتٍ بهيجة، تقام في الأسبوع الأخير من كل عام، وفي أثينا كانت تقام الاحتفالات حول شجرة عظيمة يتم تثبيتها في منتصف المدينة وتسمى " شجرة العالم "، وفي وقتنا الحاضر يحتفل الملايين في بقاع الأرض بالمناسبة بتزيين الشجرة بالكرات الزجاجية الملونة والأجراس والزهور لما تمثله من قدسية محببه إلى النفس، إلى جانب اعتبارها رمزاً لطقوس الاحتفالية المميزة بأعياد رأس السنة، وللشجرة مكانة عالية وقدر كبير في نفوس الناس حتى أصبحت عادة شائعة عند الكثيرين، يبدعون في تزيينها وتنصيبها في مكان بارز بالمنزل قبل موعد العيد بعدة أيام وتبقى في موضعها حتى عيد الغطّاس" .
بالعودة إلى قصة ميلاد السيد المسيح عليه السلام في المراجع الدينية لا نجد أي رابط بين حدث الميلاد وشجرة الميلاد، فنتساءل من أين جاءت هذه الفكرة ؟ ومتى بدأت ؟ وكيف استقرت هذه العادة ؟ أشارت إحدى الموسوعات العلمية إلى أن الفكرة ربما تكون جاءت من ألمانيا الغنية بغابات الصنوبرذات الاخضرار الدائم، وذلك خلال القرون الوسطى، حيث كانت العادة لدى بعض القبائل الوثنية التي تعبد الإله " ثور" إله الغابات والرعد أن يقوموا بتزيين الأشجار، ويتم تقديم ضحية بشرية من أبناء إحدى القبائل يتم الإتفاق عليه مسبقا، وفي عام 727 ميلادي أُوفد إليهم البابا بونيفاسيوس مبشراً وشاهدهم وهم يقيمون احتفالا تحت إحدى الشجرات وقد ربطوا ابن أحد الأمراء وهمّوا بذبحه كضحية، فهاجمهم وأنقذ ابن الأمير من بين أيديهم، ووقف فيهم مخاطباً : أن الإله الحق هو إله السلام والرفق والمحبة الذي جاء ليخلص لا ليهلك . ثم قام بقطع تلك الشجرة ونقلها إلى إحدى المنازل، ومن ثمة قام بتزيينها حتى تصبح من ديكور المنزل فلا يطمع في استعادتها أحد، ومن حينهاأصبحت رمزا لاحتفالهم بعيد المسيح، وانتقلت هذه العادة بعد ذلك من ألمانيا إلى فرنسا وانجلترا ثم إلى أمريكا .
يتساءل العديد من الناس مع قدوم مناسبة الاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة الجديدة عن العجوز البشوش صاحب الذقن الطويلة البيضاء، والرداء الأحمر والعصا الطويلة الذي يحمل الهدايا في كيسه القطني الأحمر، ويطوف ليلا فوق طوافة تجرها ثمانية من الغزلان متنقلا من دارٍ لأخرى، يضع الهدايا أمام أبوابها، لقد أصبح هذا الشيخ " بابا نويل" وعرف منذ القرن التاسع عشر ولا تأتي الهدايا إلّا معه، ولا تتحقق الأحلام إلّا بقدومه على عربته الشهيرة مع بداية كل عام ميلادي جديد والتي تجرها الغزلان على الثلج في جيرولاند أو حتى على ظهر قارب، أو جمل، في البلاد التي لا تقل درجة الحرارة فيها عن 30درجة مئوية، لقد غمس فنان الكاريكاتور توماس نيست ريشته في الألوان ورسم على الورق سانتا كلوز، سمينا ذا خد متورد ولحية طويلة بيضاء، احتفالاً بأعياد الميلاد ونشرتها إحد المجلات في وقتها، فأصبحت هذه الصورة هي المعتمدة لشخصية بابا نويل، أي أب الميلاد بالفرنسية، أما الانجليز والأمريكيين فيطلقون علي موزع الفرح في قلوب الأطفال، سانتا كلوز، الذي يعني بالإيطالية القديس . هناك قصص وأساطير عديدة حول هذه الشخصية التي أحبها جميع الأطفال في العالم، وتروي الأساطير أن بابا نويل يسكن القطب الشمالي، في مكان بارد جدا من جرينلاند، الجزيرة الأكبر في العالم، حيث يقف بابا نويل بكل هيبته أمام كوينجز جاردن، مزرعة الملك ومسكنه الذي يعيش فيه، ويتدلى من عنقه المفتاح الذهبي لمصنع الألعاب، الذي يعمل فيه على إعداد الهدايا، وليؤكد بإصرار على أنه الوحيد الذي يصنع البهجة في النفوس، وتروي قصة شهيرة أنه منح ثلاث عذارى فقيرات في ليلة عيد الميلاد أموالاً مكنتهن من الزواج، وقد جعلته هذه القصص منبع الكرم ومصدر العطف والحنان على الأطفال لأنه ارتبط بعيد مولد السيد المسيح القائل " دعوا الأطفال يأتون إليَ " في لفتةٍ إنسانية .
تختلف احتفالات رأس السنة الميلادية من بلد لآخر، التقويم " الجريجوري" هو تقويم مقتبس عن التقويم الذي ابتدأ به العمل في عهد الامبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي يبدأ من أول فبراير، وهو تاريخ بداية العمل بالقانون المدني الذي ينص على أن يتولى الشعب حكم نفسه عن طريق نوابه لمدة سنة، ومنذ آلاف السنين كانت البشرية تعتبر فصل الربيع هو بداية عودة الحياة إلى الأرض بعد انقضاء فصل الشتاء، ولذلك يعتبر بداية السنة الجديدة، وكانت تستمر الاحتفالات سبعة أيام .
أما الاحتفالات البابلية برأس السنة فكانت أكبر وأضخم من احتفالات الروم، ومن العادات التي استوحيت من الحضارات القديمة اعتماد بطاقات تصور أطفالا في اليونان واعتبار الطفل رمزا للعام الجديد، حيث تضع الأمهات أطفالهن الرضع في سلال من القش، ويتجولن بهم في أنحاء المدينة، أما التقليد الروماني الذي شاع في الكثير من مناطق العالم فهو توزيع القطع النقدية المعدنية على الأطفال، وبدأ من حينها الإمبراطور في زيادة صك العملات المعدنية التي تحمل اسمه، يوزعها في بداية السنة ويبدأ التعامل بالقطع الجديدة على أمل أن تكون السنة خيراً ويمنح الأطفال بعض القطع القديمة .
ويعود إطفاء النور ثم إعادة إنارته إلى اعتقادات الديانات القديمة التي كانت تعتبر أن ضوء الشمس أمر إلهي يحمل دفء الحياة، واما الظلام فهو يعني الموت لذلك يضيء الناس الشموع أو أي إنارة أخرى كتقليد لإبعاد شبح الموت في العام الجديد .
أما عند الأمازيغ شعوب شمال إفريقيا فتنتهي عندهم السنة الأمازيغية مع غروب شمس يوم 12 يناير لتبدأ السنة الأمازيغية الجديدة يوم 13 يناير ويطلق عليها الأمازيغيون
"أسوكاس أمكاز" وبدأ الحساب الأمازيغي منذ عهد الملك " شيشنق الثاني " وهي حسابات تعتمد على السنة الفلاحية، وتفيد المعلومات المتوفرة أن الأمازيغ لا يأكلون اللحم في هذه المناسبة ولا يشعلون النار، وأكثر من ذلك لا يغسلون أغراضهم التي تخص الطبخ والاعتقاد السائد هو أن البركة ستحط عليهم إن تركوا أغراض الطبخ دون غسيل .
إذا كان للجانب الروحي أثره على النفس تسمو به وتتألق فيتعزز معها تقدير الفرد لذاته، فإن الجانب الاجتماعي هو التوازن الحقيقي للإنسان في حياته فيها تزهو حياة الفرد ويوفق في تلمس بدايته الفعلية نحو جعل أحلامه حقيقية، وأعياد الميلاد مصدر لشحن نفس الأطفال بالطاقة الإيجابية ولتطوير الذات وتعزيز الإيجابية لدى الطفل التي تدفعه للانطلاق إلى أفق أوسع دون أن يلجأ إلى فكرة الاصطدام الشديد بالمجتمعات وثوابتها بشكل عام سواء على مستوى العقيدة أو الحقوق والأفكار، ومن هنا تكون البداية لتقارب الحضارات والثقافات والأديان لخير البشرية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ