كركوك في الماضي/حكايات من الماضي الجميل (قراءة في كتاب)

2022-01-11

غلاف الكتاب امامي

الحنين للماضي شعور جميل، يجعل الشخص يتمنى عودة الأيام الخوالي بذكرياتها واحداثها، والحنين موجود بالفطرة، ولكن تزداد نسبته من شخص لآخر، وكم من غريب حنّ إلى موطنه وأهله وقضى الليل ساهرا باكياً تبلل دموعه الوسادة ولا أحد يسمعه ويظل على حاله من المكابدة والشوق حتى يغلبه النوم .

قال مصطفى صادق الرافعي عن الشوق : هو حبل من الحنين التف حول القلب وكلما نبض القلب كلما اشتد حبل الحنين على القلب وضاق عليه فاذا التقى المشتاق بمن يروم رؤيته انفك حصار حبل الحنين عن القلب .

وقال الامام بن حزم : فالشوق قد يكون لخلٍ او لأرضٍ ترعرعت فيها أو لجماد لا حراك فيه، الا ترى إنك تشتاق لبيتكم القديم عند رؤية أطلاله .

والله ما لمحت عيني منازلكم         إلّا توقد جمر الشوق في خلدي

ولا تذكرت مغناكم وأرضكم         إلّا كان فؤادي طار من جسدي

وكل شعب له حكايات وتقاليد وتراث يجدر تذكرها وتخليدها بتوثيقها خوفاً عليها من الإندثار بمرور الزمن، وقد تصدى المربي الكبير الأستاذ ييلماز شكر بك أُوغلو لهذا الباب فخلّد الكثير من الحكايات والأمثال الشعبية الخاصة بتركمان العراق، ولا سيما تركمان كركوك في كتابه الموسوم (حكايات من الماضي الجميل) المتكون من 460 صفحة من القطع المتوسط، وقد كتب مقدمة الكتاب الاديب المعروف محمد خورشيد قصاب اوغلو رئيس تحرير مجلة الفنار الشهرية، حيث أسهب في الحديث عن الكتاب والكاتب بأسلوب شافِ كافِ وكان له دور كبير في إعداد وطباعة ونشر هذا الكتاب .

الكتاب بقلم فنان ومربي  ومثقف وإنسان وهو تركماني القومية ولكن بنَفَس وطني غير متعصب لقومية أو لحزب أو طائفة وكان مديراً لإعدادية كركوك، وتخرج على يديه المئات بل الالاف من الطلبة العرب والكرد والتركمان والمسيحيين، شغل بعضهم مناصب عليا في الدولة، وكما قلت فان الكاتب مسكون بالفن والثقافة والفلكلور، وهو خريج اكاديمية الفنون الجميلة، وكان له نشاط بارز من خلال الأعمال  الإذاعية والتلفزيونية في القسم التركماني، ويبدو من مواضيع الكتاب بان المؤلف غارق في حب المدينة، حيث أبحر في تفاصيلها الزمكانية وضمنه صور الماضي حلوه ومره، ليله ونهاره ووجدته يحسن استخدام عنصر التشويق فيجعل القارئ يتوق إلى أن يكمل الكتاب في يوم وليلة فهو يحدث القارئ عن فصول السنة فيشعر بالنشوة في الصيف وبالبرد في الشتاء .

الكتاب مؤلف من كلمات ولكن لهذه الكلمات قدرة على الأخذ بيد القارئ والتجول به في مناطق المدينة المختلفة ويوقفه امام المطاعم، والسينمات، والمساجد، والمقابر، والمحلات، والحمّامات، والأسواق والمكتبات والمدارس وحتى صالونات الحلاقة وانه لم يغفل شيئاً وإذا حدث فليس ذلك عن إهمال وإنما دون قصد والعتب على الذاكرة، ذكر الأحياء والأموات، المقيم والمهاجر، ذكر أصحاب المناصب والشقاوات والفقراء وأرباب المهن ولم ينس التقاليد والعادات في الأعياد والأعراس وأيام محرم وليالي رمضان وحفلات الختان .

لقد ذكّرني الكتاب بأمور كثيرة من الماضي انستني الأيام جلّها لقد ذكرني بجيراني، واعادني للطفولة والشباب، وللكاتب أسلوب جميل يتحدث فيه مع المناطق كما تحدث مع الصوب الكبير ص(458)، فتعاتبه المنطقة الفلانية في حديث حزين فيرضيها الكاتب بالكتابة عن تفاصيل كثيرة عنها، أسواق ومناطق وأشخاص ومناسبات، وله قدرة عجيبة في حصر المصطلحات وشرح الحكايات بدقة وتفصيل، ولم يترك جانباً إلّا وذكره، ذكر الأطعمة والمخابز ووسائط النقل والألعاب والأغاني والأمثال والأهازيج، وذكر أسماء بعض الأفلام السينمائية التي كانت مشهورة في تلك الأيام مثل أبو جاسملر وهرقل وطرزان وماشستي، فضلا عن الأفلام الهندية، ومن الأطعمة ذكر : شروب ، علّوجة، كريم استيك ،ازبري، ريواز، لوزينة، بيض اللقلق، شعر البنات، وذكر صباحات كركوك ومكونات الفطور مثل القيمر والجبن والحليب والباجة واللبن والكاهي والباقلاء واللبلبي وغيرها، وتحدث عن ليالي الصيف والنوم على السطوح والفنرات التي تربط بالطائرات الورقية وهي فوانيس مصنوعة من الورق الملون الخفيف توضع فيها شمعة صغيرة فتتحول السماء إلى انوار طائرة جميلة تدخل البهجة الى النفوس .

وعرّج على سوق الهرج، وهو سوق تاريخي يباع فيه كل شيء مثل الساعات والدراجات والراديوات والبراغي والدرنفيسات والأدوات المنزلية والملابس المستعملة، ويرتاد هذا السوق شريحة كبيرة من الناس، ولم ينس الكاتب ظاهرة الشقاوات وقصص بطولاتهم التي تستهوي الجميع وقد قضى نظام  البعث على هذه الظاهرة بعد المجيء إلى السلطة سنة 1968، وذكر الكاتب عيد الجيش والفعاليات التي كانت تجري في كركوك من استعراض وتوزيع حلوى الجيش والصمون العسكري والتقاليد المصاحبة لسوق الشباب إلى التجنيد الإلزامي، وكانت كركوك مقراً للفرقة الثانية، وكان قائدها حينها اللواء الركن إبراهيم فيصل الانصاري رحمه الله .

وبقي أن نقول إن ما من مطبوعة إلّا وتحتوي على بعض الأخطاء النحوية والإملائية والمطبعية، وهذا ما حدث مع الكتاب ولكن العتب كل العتب على المصحح اللغوي الذي ذكر اسمه في الصفحة الأولى وهو الأستاذ محمد علي نورالدين وكان المفروض أن لا يذكر اسمه لأنه لم يصحح شيئاً البتة ولا أظنه قد بذل جهداً أو أتعب نفسه في التصحيح .

وقد يؤآخذ الكاتب على تركه لبعض الأمثال التركمانية على حالها بلا ترجمة، مما يصعب على القارئ العربي معرفة المعنى رغم أنه ترجم بعض الأمثال ولكنه ترك البعض بلا ترجمة كما في ص (106)، ويتساءل الكاتب في بعض أماكن الكتاب عن العلاقات غير المنطقية بين الكلمة ومعناها باللغة التركمانية والحق بان بعض الأهازيج أو الأمثال قد تكون جميلة بلغتها الأصلية إلّا أنها لا تعطي معنى عند الترجمة مثل أهازيج الأطفال ليلة العيد حيث يقولون :

يارن بيرامدي بير قاشوغ عيراندي، أي غداً عيد ملعقة من اللبن، فالعلاقة مفقودة بين ملعقة اللبن وليلة العيد، وكذلك (قيزلار يولداشي) ويقابلها بالعربية أبو بريص، والترجمة الحرفية هي صديقة البنات وكيف يكون هذا الحيوان صديقاً للبنات وهو مخيف ومرعب .

ويتضمن الكتاب عدداً من الصور ذات العلاقة بالمواضيع المختلفة لكنها بالأبيض والأسود ونحن نعيش مرحلة متطورة في الطباعة الرقمية الملونة، وأتمنى لو يتلافى الكاتب هذا الأمر وباقي الثغرات في الطبعات القادمة، وأما عنوان الكتاب (حكايات من الماضي الجميل) كان يجب إضافة اسم كركوك عليه كي يستقيم المعنى، لأن الكتاب خاص بكركوك وأهالي كركوك، ويكون العنوان حكايات كركوكلية أو حكايات  من ماضي كركوك، وخيارات أخرى متاحة للكاتب ، وأما غلاف الكتاب فإنه رغم جماله مزحوم بالصور وكانت صورة واحدة منها كافية لتوحي بالمعنى والحال في الغلاف الخلفي توحي بقلة خبرة من لدن المصمم .

وفي الختام أقول بأن أكثر حكايات الكتاب تصلح لتكون مادة لفيلم سينمائي ومسلسل تلفزيوني لأهميتها، ويظل الحنين إلى الماضي مستمراً والذي بقي في المدينة ولم يغادرها مثل الأستاذ الكاتب فان حبه لها يزداد يوما بعد يوم، وأما الذي غادر كركوك وغاب عنها عقوداً طويلة فانه يزداد إليها شوقا وحنيناً  .

 

حسين أبو سعود

الدكتور حسينأبو سعود : كاتب عراقي مقيم في لندن

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved