"يذكرون، في سبب تأليف الحماسة الكبرى، أن أبا تمام توجَه الى خراسان ليمدح واليَها عبدالله بن طاهر، ولما نال منه جائزته- ألف دينار قرر أن يرجع الى العراق, وفي طريقه عرج على( هَمَدان) فأستضافه أبو الوفا بن سلمة وأكرمه, وحين فكَر في شد الرحال الى بغداد وقع ثلج عظيم قطع عليه الطريق, ومنع السابلة, فأضطر إلى البقاء عند مضيفه, الذي أحضر له خزانة كتبه, فطالعها وأشتغل بها, وصنف خمسة كتب منها , و كان من أشهرها كتاب الحماسة الكبرى, الذي عرف ب (ديوان الحماسة ) لأبي تمام "
ولحسن الحظ أنتهى حال سعدي في كندا/ تورنتو كحال أبي تمام .. فبرد وثلوج تورونتو أضطرت ضيفي العزيز إلى الأنكباب على ترجمة كتاب الشاعر الفيتنامي ثيو تخلصا من صباحات البرد الطويلة . .منتظرا وبشغف حلول بصيص من الامل ... لربيع قادم.. أو .. مِزنة مطر من شهر نيسان .
تراه يتطلع من خلال النافذة الى الشارع راصدا حالة الجو من خلال المارة الملتحفين بمعاطفهم الثقيلة, يراقبهم وهم يخفون رؤوسهم كالطيور في داخل صدورهم , وفي مثلث العمارات التي أعيش في واحدة منها ,يشكل هذا المثلث, دوار تيار قوي من الريح للدرجة التي يتعذر فيها احيانا فتح الباب الخارجي للبناية والذي أسميه للنكتة "بمثلث برمودا" .
الكتاب امامه ولأيام ... ينظر اليه ساهما وأحيانا
تمتد يده الى الكتاب يتصفحه بسرعة ثم يرميه على الطاولة مرة أخرى
وأحيانا يبدأ بالقراءة سارحا بأفكاره مع الكلمات .. و فجأة يرميه جانبا
وكأنه غير عابئ به و بكاتبه .. و يبقى الكتاب على طاولته مهملا , نائحا عند أنامل سعدي المنحدرة على سطوره صعودا و نزولا
وكنت أراقبه مستغربة .. لقد أحضر الكتاب معه الى كندا ليترجمه .. فمتى سيبدأ !!!!!
الفضول دفعني الى تصفح الكتاب وقراءة بعض قصائده لكثرة ما حدثني سعدي عنه
أثارت اعجابي احدى القصائد: ففي عمق البؤس والفقر كان هناك شئ من السكون والتأمل والشفافية
تربطك بناسها فتأنس لهم .... تتمنى ان تنزل الى النهر وتتأمل الشجر وتتمرغ بالعشب المبلل .
يأخذ قدح نبيذه ويجلس صامتا متأملا... أو سارحا مغموما... و احيانا ينظر الي و كأنه لا يراني ....
وهنا أدركت انه سيبدأ بالترجمة قريبا .. انه المخاض .
مخاض سعدي عندما يترجم قصيدة لشاعر ما , كمخاضه عندما يكتب قصيدته
يتأملها كحبيبة .. يدرسها .. يداعبها بأفكاره .. يقرأ ملامحها , يعريها , يناجيها , يتمرغ بها
يأنس بها ... عندها وعلى غفلة , يترك كأسه ويركض الى آلتهِ ويبدأ الكتابة ......
رأيته يتصفح وريقات الكتاب متأملا , بعدها بدأت أصابعه تنقر وبقوة وبدون توقف موزعا نظره بين الالة الطابعة والقصائد ,
خلال ساعات أكمل ترجمة القصائد الاربع دون توقف ومن دون ان يفتح القاموس المسكين النائم قربه على الطاولة .... و يستمر يعمل بنفس الخشوع هذا اليوم وسيستمر غدا .... وسيستمر بعد الغد .. وسيستمر و يستمر ......و يستمر
أيها الشيخ الشامخ المبدع ... يتهمونك بالخرف كي يطعنوك وليت بعضهم يتمكن من صياغة بيتين بهذه البلاغة و اللغة الرفيعة العالية
أيها الشيخ الشامخ المبدع... لقدنفخت بلاغتك الروح في قصائد ثيو فجعلتها سلسة ,هنية ,مفعمة بالشاعرية كلغة ثيو الام , وهو يطرح لنا وببساطة ذكريات الحنين الى قريته , الى أمه ، إلى أذرع الفتيات الغضة تنوح من ثقل الماء في الدلاء ,الى رائحة الطين الاحمر على ضفتي النهر , إلى شعر والده ألاسود/ الابيض مهاجرا/ عائدا / مهاجرا مرة أخرى ......
تورونتو 2014