لعلك تلاحظ اليوم في الكتابات الحديثة على مختلف ألوانها ظاهرة سلبية، قد تكون لها جذور قديمة، أخذت اليوم تستفحل. هذه الظاهرة هي أداة المرسل في تواصله مع الآخرين، ومن المعروف أَنَّ الكاتب لا يمكن أن يبدع ويؤثر في أي مجال من مجالات الأدب و المعرفة و الفكر إلاَّ إذا توفرت الشروط اللازمة لهذا الإبداع والتأثير، ولابد قبل كل شيء للكاتب المجيد أن يتقن أداته؛ اللغة، فهو باللغة يكتب للقراء، وهم باللغة يقرؤون له، وباللغة ينشئ الكاتب تواصلاً من نوع ما مع القرّاء، وباللغة يتم التفاعل بين صاحب الأثر وبين المتلقين، ينقل إليهم الواقع كما يراه، ويعكس لهم في كتاباته خبراته وتجاربه وآراءه و مواقفه في الحياة، وباللغة أيضاً يرى الكاتب غيره من الأدباء والمفكرين و مواقفهم وآراءهم وخبراتهم، وعلى هذا يمكن أن تكون اللغة إلى حد ما المعادل الموضوعي لحياة الإنسان، ويمكن أن تتوقف دقة هذا المعادل أو عدم دقته على تمكّن هذا الإنسان من اللغة أو عدم تمكنه منها، لكنّ التمكّن من اللغة لا يأتي اعتباطاً وإنما يتطلب في أقل تقدير الإحاطة باللغة، إذا لم يتطلب الإطلاع على أسرارها والغوص في أعماقها وإتقان كل ما يتفرع منها، وهذا يحتاج، ولا شك، إلى جهد غير قليل، والأديب معنيّ بإتقان لغته، وبكل ما يتفرع منها، بل مطلوب من الأديب سواء أكان كاتباً أم شاعراً أم ناقداً أم قاصاً أن يمتلك ناصية اللغة قبل سواه من الكتاّب الآخرين، أمّا الكتّاب الآخرون على اختلاف مشاربهم وتباين اتجاهاتهم، فهم معنيّون أيضاً باللغة، ولا بد لهم من الإحاطة بها . والتمكّنُ من اللغة قد يسهم إسهاماً في التأثير على الآخرين، فقد يكون من يمتلك ناصية اللغة أكثر تأثيراً في القراء من ذاك الذي لا يلمّ بها، لأنّه عارف أسرارها، مطلّع على مواطن التأثير فيها. وقد كان القدماء يطلبون من الأديب أو المتأدب أن يقرأ علوم اللغة، ويقرأ أمهات الكتب القديمة : أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ و ((النوادر)) لأبي على القالي، كما كانوا يطلبون من الشاعر الناشئ فضلاً عما تقدم حفظ عشرات القصائد بل المئات كي تستقيم لغة هؤلاء، وتتجمّل أساليبهم، وإلى عهد قريب جداً كان أعلامنا المحدثون في الفكر و الأدب ينصرفون في بدايات نشأتهم إلى أمّهات الكتب والدواوين القديمة يعبّون من مناهلها،ولكنّهم لم يتوقفوا عندها, وإنمّا تجاوزوها إلى غيرها، وهكذا كان مقياس موهبة الأديب أو الشاعر عند القدماء بمدى ما كان يحفظ من روائع الشعر، وما يتقن من علم العروض، وما يقرأ من أمهات الكتب الأدبية والنحوية التي دار القدماء في فلكها، ليس من الضروري أن نلتزم بما وضعه القدماء للشاعر والأديب من مقاييس فللقدماء حياتهم، ونحن لنا حياتنا، لهم مقاييسهم التي تلائم عصرهم وأذواقهم الأدبية، ونحن ينبغي أن تكون لنا مقاييسنا التي تلائم عصرنا وأذواقنا الأدبية، فما دامت الحياة مختلفة, فالمقاييس مختلفة، والأذواق الأدبية مختلفة، لكن مهما اختلفنا مع القدماء فإنَّ شيئاً واحداً يظلّ يجمعنا بهم، ينبغي أن لا نختلف عليه، أو نقلّل من شأنه أبداً مهما يكن من أمر ذلك هو سلامة اللغة وجودتها، وبعبارة أخرى الثقافة اللغوية التي ينبغي أن يتحصّن بها كل من تكون اللغة أداته، كما تحصّن بها القدماء من قبل، وإذن، لا بد لكل من يكتب أو يشعر أن يمتح من تراث لغته ما استطاع، وتظل أمهات الكتب القديمة التي أشار إليها القدماء أو التي لم يشيروا إلها زاداً دسماً لكل جائع، ونبعاً فيّاضاً لكل عطشان، يحتاج إليها كل من كانت لغة الكتابة أداته، ومتى استطاع الكاتب أو الأديب أو الشاعر أو القاص أو المفكر أو الناقد أو المصلح أو الخطيب أن يتمكن من لغته تمكن من أداته، وعندئذ يكون قادراً على تطويعها بين يديه واستخدامها على نحو دقيق في كل ما يحتاج إليه، كما يكون قادراً بعد ذلك على تطويرها لمواجهة مختلف الظروف والأحوال، وما يؤسف له أنّا نجد اليوم التراكيب الملتوية والعبارات المستوردة بترجمات جامدة تشيع عند كثير من الكتاب والأدباء دون أن يتبصر أكثر هؤلاء بمدى مخالفتها أصول اللغة والذوق الأدبي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنمّا تعداه إلى كثرة الأخطاء النحوية واللغوية والاختلالات العروضية التي أصبحت مساحتها في كتابات هؤلاء تتسع، أضف إلى ذلك ركاكة كثير من الأساليب وابتعادها عن الفصاحة، ومجانبتها روح اللغة، فإذن نحن أمام تكوّن ظاهرة سلبية أفرزتها هذه الكتابات الرديئة، وقد يخالفنا الرأي ممن ينتمون إلى هذه الظاهرة، فربما لا يرون في هذا النوع من الكتابات ظاهرة سلبية، وإنما يرونه ظاهرة صحّية، وإنه عندهم دليل على تطور اللغة في الانفتاح الحضاري الذي لا بد أن يرافقه انفتاح لغوي، أو ربما يرون أنًّ ما تحدثنا عنه لا يتناول إلاَّ الشكل، وأن الشكل عندهم ليس كل شيء، بل المضمون الذي شغلهم عن كل شيء، برأيهم، أهم من الشكل، وقد يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، فيزعم أن التراث لا يخدم حياتنا الراهنة، ولا يلبي حاجاتنا، ولا يفيد لغتنا، فلا يرى فائدة من العودة إليه، أو قد يشتط فيما يذهب إليه، فينادي بالانقطاع عن التراث معتقداً أَنَّ الحداثة نقيض التراث، فأمهات الكتب الأدبية والنحوية واللغوية ودواوين عيون الشعر العربي عند هؤلاء لا تفيد الكاتب أو الأديب أو الشاعر شيئاً، لكنَّ بعضهم الآخر يقر أنَّ ما تحدثنا عنه ظاهرة سلبية حقاً، لا بد من الوقوف عندها، وسواء اختلفت آراء من يمثلون هذه الظاهرة أم تقاربت فإنهم ينقسمون، فيما أرى، إلى فريقين اثنين: فريق جاهل لغته، أو شبه جاهل بها، وبأساليبها وبلاغتها، وبكل ما يتصل بها من علوم بسبب إعراضه عن التراث أو بسبب إقباله القليل عليه، وأستطيع أن أزعم لك مطمئناً أن كثيراً من هؤلاء لم يكلف نفسه أن يدنو من ينابيع اللغة والأدب والشعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق متونها محمول
والأنكى من ذلك أنهم لم يسمعوا حتى بأعلام النحو واللغة والأدب والشعر القديم ولا بمؤلفاتهم، وبلغ الأمر عند بعض هؤلاء أنه ما فتى يتباهى بجهله هذا التراث، ولِمَ هذا التراث مادام مؤمناً بالحداثة؟ ولماذا يتجه الشاعر الناشئ إلى التزود بالثقافة العروضية وإلى حفظ مزيد من القصائد المنتسبة إلى عيون الشعر العربي مادامت الحداثة تعفيه من ذلك العناء؟ فليلجأْ إذن إلى الحداثة من يجهل علم العروض، ومن يجهل علوم لغته، فكأن الحداثة أصبحت تلغي التراث، أو كأنَّ الحداثة مشجب نعلّق عليه ضعفنا وجهلنا، وهذا الفريق واسع يضم أغلب من يمثل هذه الظاهرة. وفريق ثانٍ أوفر حظاً من الفريق الأول في الاطلاع على التراث وأكثر إتقاناً للغة واتصالاً بالشعر القد يم، ومع ذلك تراه يتجاهل وجود هذه الظاهرة مع اقتناعه بوجودها، ويتساهل في دفع الكتابات إلى الرداءة والانحدار، ويرتاد ميدان الأساليب الملتوية والركيكة، ويحث عليها، ويتوسع في استخدام العامية أو العبارات المستوردة أو الألفاظ الأجنبية، ويتذرع لاتجاهه هذا بمقتضيات التطور اللغوي أو الدلالي وضرورات الحداثة، ولا شك أنَّ لهذا الفريق، على قلته، تأثيراً لا ينكر في تعميق هذا الاتجاه في الكتابات الحديثة، ومن المؤكد أن دوافع معنية، قد لا تخفى، تدفعه إلى هذا السبيل، فقد ينطلق من اتجاه معادٍ للغة العربية، فلا يجد شيئاً يدفعه إلى الحرص على اللغة أو الغيرة عليها، أو من اتجاه آخر لا صلة له باللغة العربية ولا بالقومية العربية، وهذا الفريق الثاني يسعى دوماً إلى ضرب اللغة تحت ستار الحداثة من خلال تشويهه أساليبها، وفتحه أبواب التفريط اللغوي، ويهم هذا الفريق أن لا تكون أساليب العربية في الكتابات بخير، لأنه، وهو يتعامل مع لغتنا العربية، مشدود بعقد ضاربة جذورها في أعماق التاريخ، لم يستطع أن يحرّر نفسه منها بعد، هذه العقد تضخّ له في شرايين كتاباته وأساليبه سموماً متدفقة لا تنقطع، يكاد الاستثناء من هذا الفريق الذي لا ينتمي إلى هذا الاتجاه أن يكون قليلاً. نعم! من الضروري استحداث أساليب جديدة في التعبير عن أفكارنا وميولنا وعن واقعنا الجديد اليوم، فاللغة، كما هو معروف، تتطور بتطور أبنائها، ولا تقف في تطورها عند حد، ومن هنا، فإنه ليس من المعقول أن نكتب عن حياتنا اليوم بأساليب القدماء أو بلغتهم، غير أن هذا التطور يجب أن يغني اللغة لا يفقرها، يقويّها لا يضعفها، والتطور في اللغة لا يعني الفوضى، وإنما يعني النظام، والجهل باللغة لا يؤدي بها إلى التطور بل إلى التخبّط والتشرذم والفلتان تمهيداً للضياع أو الانهيار. إنَّ العلم باللغة هو السبيل إلى تطورها، ولا يستطيع أن يطور اللغة من كان جاهلاً بها! ومهما يكن من أمر فإنَّ حاجتنا إلى التراث تظل ضرورة ملحة إلاَّ إذا نشأنا من فراغ أو استطعنا أن ننقطع من جذورنا، كما أن حاجة الأديب أو الكاتب أو الشاعر أو المفكر أو الناقد أو السياسي أو الصحافي أو المصلح الاجتماعي أو كل من كانت لغة الكتابة أداته في الاتصال مع الآخرين إلى اتقان لغته تبقى حاجة ضرورة إلاَّ إذا لم تكن اللغة أداته، وإذا كنّا نحذّر من شيوع الأخطاء اللغوية والنحوية وركاكة الأساليب التي تعج بها الكتابات الحديثة، وإذا كنّا ندعو الكتاب والأدباء والشعراء إلى التزّود بالثقافة اللغوية أو العروضية كي يمتلك هؤلاء الأداة التي يتواصلون بها مع الآخرين، فليس معنى ذلك أننا شكليون، نناصر الشكل على حساب المضمون، ومتى كان الشكل منفصلاً عن المضمون؟ لا! إننا نطالب بالمضمون، ونلحّ عليه، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع إيصال هذا المضمون إلى جمهور القرّاء، ثمَّ التأثير عليهم بدون شكل جميل جذّاب، صحيح، سليم، يعبر عنه أدق تعبير.