الحَجَرة

2022-06-26

ليلى

       كاتبة القصة ليلى سليماني

في أمسية من شهر أيلول، حينما كان الكاتب روبير بروسار يلقي كلمة عن آخر رواياته، ألقى أحدهم حجرة على وجهه . ولحظة انطلقت الحجرة من يد المعتدي وطارت في الهواء، كان الروائي قد بلغ نهاية مقولة كررها عدة مرات -أن تولستوي معروف بلقب "الخنزير المقرف" . ولخيبة أمل الكاتب كان رد فعل الحضور في تلك الليلة لا يزيد على إطلاق ضحكة مهذبة . وكان قد مال نحو كوب من الماء بجواره على الطاولة، ولذلك أصابت الحجرة طرف وجهه الأيسر . صاح الصحافي الذي يجري الحوار معه منبها، وسرعان ما أعقبه هدير الحضور أيضًا . وبرعب واضح هرب الموجودون من القاعة . وبقي بروسار وحيدًا، ملقى على المسرح مغشيا عليه، والدم ينزف من جبينه .

وحينما عاد روبير بروسار إلى رشده، وجد نفسه في سرير بمصحة، ونصف وجهه ملفوف بالضمادات . ولكنه لم يكن يتألم بل شعر كأنه يسبح في الهواء، وارتاح لهذا الإحساس بالخفة ورغب لو يستمر . كان روائيًا مرموقًا، ولكن سمعته الأدبية بعكس أرقام مبيعاته . وكانت الصحافة تتجاهله، وربما ينظرون إليه بعدم تفاهم، وكانوا يعتقدون أن من السخف أن يقول بروسار عن نفسه إنه كاتب . وكانت هناك عدة قوائم سوداء للكتب الأفضل مبيعًا، مع قاعدة من المحبين المخلصين . ولكنها غالبا من النساء . ولم تكن مؤلفات بروسار تقارب مشاكل الدين أو السياسة . ولم يكن لديه آراء جازمة حول أي شيء .

وبالإجمال، لم يتعرض لمسائل في الجنوسة أو العرق، واحتفظ بمسافة بعيدة من القضايا الخلافية الحالية . وكانت مفاجأة أن يوجد شخص يريد الاعتداء عليه .

حقق معه رجل شرطة، وأراد أن يعلم إن كان لبروسار أعداء، وهل يدين لأحد بمبلغ من المال ؟ . وهل يعاشر زوجة رجل آخر ؟ . ووجه إليه الكثير من الأسئلة عن النساء . هل لديه علاقات كثيرة ؟ وما هو نوع النساء المتورط بهن ؟ . وهل اندس عاشق غيور أو مرفوض بين الجمهور دون أن يلاحظه أحد ؟ . ورد روبير بروسار على جميع هذه الأسئلة بهزة من رأسه . ورغم جفاف فمه والأوجاع الفظيعة التي بدأت تنال فجأة من عينيه، قدم للشرطي تعريفا كاملًا بطبيعة حياته . كانت حياته هادئة، ولم تتخللها المشاكل ولا التعقيدات . ولم يسبق لبروسار أن تزوج وأنفق معظم وقته وراء طاولته، وأحيانا يتناول وجبة منتصف اليوم مع أصدقاء من أيام الجامعة، وكان على علاقة ودية معهم لما ينيف على 30 عامًا، وفي أيام الآحاد يزور بيت والدته لتناول الغداء، وختم كلامه بقوله : "أخشى أنه لا شيء يدعو للاهتمام"، وأغلق المحفق دفتر ملاحظاته وانصرف على الفور . 

غمرت أخبار بروسار نشرات الأنباء، وتصارع الصحافيون للحصول على لقاء حصري معه، وتحول بروسار إلى بطل، ونظر له بعض المتابعين كما لو أنه ضحية المتطرفين اليمينيين، رأى آخرون أنه هدف للمتعصبين الإسلاميين، واعتقد قليلٌ من الناس أن مريضًا تسلل إلى الغرفة في تلك الليلة، عاقدا العزم على معاقبة هذا الرجل الذي بنى نجاحه على أسطورة الحب المحرم، أما الناقد الأدبي المعروف أنتون راموفيتش، فقد نشر مقالة من خمس صفحات عن أعمال بروسار التي أدانها سابقا، وزعم راموفيتش أنه اكتشف المعنى المدفون بين سطور روايات الكاتب الرومنسية الخفيفة، وأكد أنها تتضمن نقدًا لمّاحًا للمجتمع الاستهلاكي وتحليلًا هادفًا للطبقات الاجتماعية . وصنف بروسار بين "المعارضين السريين" .

وبعد خروجه من المصحة، تلقى بروسار دعوة إلى قصر الإليزيه، مكان إقامة الرئيس الفرنسي، وكان بوجه رقيق ومهموم وتوجه بلقب البطل، قال له :"فرنسا مدينة لك، فرنسا فخورة بك" .

وأرسل له حارسًا لحمايته : فعاين شقة بروسار وقرر أن يغطّي النوافذ بالورق وأن ينقل هاتف المدخل إلى مكان آخر، وكان الحارس رجلًا مفتول العضلات برأس حليق براق، وأخبر الروائي أنه أمضى شهرين في حماية أحد كتاب النازية الجديدة فعامله كعبد وكلفه بإحضار ثيابه من مصبغة للغسيل بالبخار .

وفي الأسابيع التالية تلقى بروسار الكثير من الدعوات للاشتراك في برامج تلفزيونية، وكان الفنانون المكلفون بالمكياج يعتنون بإظهار الندبة المحفورة على جبينه، ولدى الاستفسار منه هل ينظر للهجوم عليه كأنه اعتداء على حرية التعبير، كانت إجاباته المقيدة دليلًا على التواضع .

ولأول مرة في حياته، شعر روبير بروسار أنه محبوب - والأهم أنه محترم - من كل من يحيط به . 

عندما دخل الغرفة بعينه المسودة، وبوجهه الشبيه بوجه جندي جريح، انتبه لدمدمة حزينة، وضع محرره يده على كتفه مثل مربي خيول يعتز بنفسه مقدما نسله الناجح .

أغلقت القضية بعد عدة شهور، لم يجد أحد دليلًا، لم تكن هناك كاميرا في مكان إلقاء الكلمة، وقدم المشاهدون أقوالًا متعارضة، في الإعلام أصبح المجرم المجهول هدفا للتكهنات العجيبة، صحافي متمرد، وله سمعة ناجمة من تسريب أشرطة مشاهد جنسية، اعتبر أن المعتدي هو رمز للجمهور المنسي والمتواري عن الأنظار، ورامي الحجرة الذي لم يكشف عن اسمه أصبح رمزا للثورة، وبالهجوم الجريء على بروسار أطلق أول رصاصة على الكسب المريح والشهرة التافهة والإعلام الرأسمالي وطغيان الرجل الشاب الأبيض . 

وتراجع نجم الروائي، ولم يعد يحظى بدعوات للظهور على شاشة التلفزيون، ونصحه محرره أن يتوارى قليلًا وأن يؤجل نشر روايته الجديدة، ولم يعد لدى بروسار الرغبة بتصفح غوغل، ما قرأه فيها كان حافلًا بالمقت الذي خنق أنفاسه، وانقبض صدره وانحدرت قطرات العرق من جبهته، وعاد إلى حياة العزلة والركود . 

في يوم أحد، بعد تناول الغداء مع أمه، قرر العودة إلى بيته مشيًا على الأقدام، وفي طريقه فكر بالكتاب الذي سيكتبه، الكتاب الذي سيحل مشاكله كلها، كتاب سيعبر عن فوضى هذه المرحلة من العمر، وسيصور عالم روبير بروسار الحقيق،. وانشغل بالتفكير بكل ذلك حينما سقطت عليه أول حجرة وأصابته، ولم يلاحظ من أين جاءت، ولا الحجرة التالية، حتى أنه لم تسنح له الفرصة ليغطي وجهه بيديه، وانهار في وسط الشارع تحت وابل من الحجارة .

ترجمها عن الفرنسية سام تايلور.

 

ليلى سليماني  Leila Slimani  دبلوماسية فرنسية ومؤلفة رواية "المربية المثالية" الحائزة على الغونكور. من مواليد الرباط في المغرب. وتعيش حاليا في باريس . 



 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved