*لماذا يغنّي الطائر السجين؟!

2017-10-27
أول الكلام:
هناك بعض الحوادث تبقى في الذاكرة، وذاكرة الانسان فيها جائب كامن في عضو هام، من الناحية التشريحية دماغ الإنسان فيه غضون أو تغضنات وتموجات أشبه بالوديان، ولعل الحكمة في ذلك لزيادة المساحة السطحية وبذلك تزداد الخلايا العصبية ذات التخصصات المدهشة ومنها خلايا الذاكرة، والأهم في الوظائف هو القدرة على استرجاع الذاكرة أي محمولها بعملية التذكر الإرادي في أكثر الأحيان واللاإرادي الذي يرشح منها في الأحلام على سبيل المثال ...
أذكر وأنا طفل صغير أن علّق أحدنا صورة لسيدة أفريقية كانت ذات صدر أتلع، نهض منه طائران حبيسان.. ورغم أن الصورة ليس فيها ما يَشينُ، وكنا من الابناء الذكور دون سن الحُلُم، أصرّ الوالد على تمزيقها وربط ذلك بالتمييز العنصري ضد النساء السود !!
ولعل المتابع الكريم يتذكر أنني تطرقت مرة لإحدى سفراتي في فيتنام، حين رأيت صاحب مقهى علّق قفصين  على أشجار، يحتوي كل منهما قُبّرة، وعلا تغريدهما الجميل، تفهم منه شوقاً وحماساً وغضبا.. فقلت له : لماذا لاتجمعهما في قفص ؟! فأجابني جواب عارف :  إذهب واقضِ شغلك في القنصلية اللاووسية وعندما ترجع ستجد الجواب؛ فاستغربت وقلت لعله يريدني أن أجلس في مقهاه وأشرب شيئا.. ثم قضيت شغلي في القنصلية القريبة ورجعت طالباً قهوة ... فبادر هل تسمع غناءهما ؟.. فقلت : لا، لقد توقفا، أخذني من يدي وقال انظر؛ فوجدت الطائرين متعانقين يفلي أحدهما الآخر !!!
كان الشاعر البريطاني شيلي في احدى الجزر اليونانية مع زوجته يتمشىيان على الشاطىء فسمع صوت قبرة فطرِب الشاعر له وقال: أسمع صوتها ولا أراها، وإذ هو يبحث عنها رآها تفِّرُّ من شجيرة، فأوحت له رائعته : إلى قبرّة ..
***
في كتاب "هؤلاء علموني" لسلامة موسى يذكر مقولة لم أعد أتذكر قائلها : إقرءوا سيرة رجل عظيم . لكنني وددت الكتابة عن سيرة امرأة أظنها عظيمة، لأن العظمة تكمن في أن يحوّل الإنسان نقاط الضَّعف الى نقاط قوّة ..
في فبراير/شباط 1969، صدر كتاب سيرة ذاتية لشابة أمريكية غير معروفة  وغير متمرسة عن دار راندوم  يحمل عنوان " أنا اعرف لماذا يغنّي الطائر الحبيس" لمؤلفة اسمها  مايا أنجيلو(*)، وهي كاتبة  أمريكية، وأقول هذا لأنه يعني الكثير أن تستطيع سيدة سوداء مغمورة كالكثرة الكاثرة من بنات جنسها، أن تكتب كتاباً وتنشره، ليحكي عن حياتها منذ ولادتها في ايستاس من الولاية الجنوبية الشرقية أركنساس .. حتى بلوغها السابعة عشرة .. ولم تكن أول من يكتب من السود الأمريكيين، فالأدب الزنجي الأمريكي سجل حضوراً في عكس معاناتهم، سواء كتب من البيض أو السود من قبيل : كوخ العم توم لهارييت ستو، وأبناء العم توم لريتشارد رايت، وجذور لألكس هالي، وأحلام الفتاة السمراء لجاكلين ويدسون ...
أثار الكتاب ضجة في الصحافة الأمريكية وعند المثقفين الأمريكيين وسلّط الاضواء على زوايا مظلمة لمعاناة السود المعاشة يومياً والمألوفة حياتياً والمسكوت عنها، حتى غدا الكتاب عام 1970 من أكثر الكتب مبيعاً وفق قائمة نيويورك تايمز لذلك العام، وقد حققت  الكاتبة مايا انجيلو شهرة كبيرة، فلئن كان الكتاب يعكس تجربتها حتى عمر السابعة عشرة فقد شجعها النجاح أن تصدر الجزء الثاني لتجربها من السابعة عشرة حتى التاسعة عشرة وهكذا حتى أتمت سبعة أجزاء لحقب مختلفة من حياتها.. وبذلك حققت حلمها في الأدب وسلطت الأضواء على سلسة من عذابات مستمرة أهمها اغتصابها في عمر الثامنة.. ذلك الحدث الذي دفعها أن تمارس مهمتها في الكشف عن اضطهاد السود في "العالم الحر" !
ولم تكن مايا أنجيلو منشغلة في الكتابة التي جاءت نتيجة لتحديها زملاءها في أنها ستكتب وتتخذ من القلم أسلوب نضال، وقد سخر منها الزملاء لأنها لم تتحصل على تعليم كاف يؤهلها لأداء مهمة الكتابة.. وهكذا بإرادة حديدية وبممارسة القراءة والكتابة اسنطاعت أن تحصد جوائز مرموقة وأن تنال أكثر من ثلاثين دكتوراه فخرية من جامعات عالمية مرموقة !
 وقد ظلت ومازالت هذه الكاتبة متعددة المواهب التي فقدت براءة طفولتها منذ الثلاثينات وعانت من اضطهاد وجور وعسف صقلها وأعطاها زخماً لمواصة النضال وأصبحت تلهم النساء في ألا تستسلمن للقنوت واليأس لكي تنلن حقوقكن، ومنهن المناضلة اليسارية أنجيلا ديفز .
لقد تفجرت طاقاتها الابداعية، فهي روائية، وشاعرة، ومغنية ممتازة، وممثلة مسرح، وهي كاتبة في أدب الرحلات، سافرت لعدة بلدان فأغنت ثقافتها الحياتية وعمدت قبل السفر لأي بلد أن تلم بثقافته وتاريخه وآثاره، وأن تتعلم ما تيسر لها من لغته.. وبذلك تمكنت من القراءة والكتابة والتحدث بست لغات منها اللغة العربية فقد زارت مصر وفتنت بالأهرام .
لقد عملت قبل أن تشتهر وتطبع كتبها بمهن، كطباخة، ومغنية، وراقصة، ومربية، وشاعرة، وحتى في بيوت الدعارة، وفي نهاية الخمسينات انضمت لنقابة كتاب هارلم وتعرفت على الكتاب السود منهم جيمس بالدوين، وملهم ومرشد مارتن لوثر كنغ، الذي ساعدته كثيراً ليبرز ويتزعم حركة الحقوق المدنية ..  
اتسم كتابها الأول "أعرف لماذا يغني الطائر الحبيس" الذي استوحت عنوانه من قصيدة الطائر الحبيس  للأمريكي الاسود بول لورنس دنبار، بالبساطة والصدق وقدرة متميزة في عكس معاناتها وخبرتها وثقافتها بتلقائية وبساطة وقدرة على شد القارىء وإخراجه من الحياد الى التعاطف، مع معاناة السود الذين يعانون من قساوة التهميش والعنصرية والعطالة والفقر وكثرة الجرائم والادمان والبغاء.. صدقها يأتي من معاناتها كأمريكية من أصل أفريقي وتجاوزها الخجل والشعور بالدونية .. لقد ساهمت هذه الكاتبة مساهمة فعالة في تغيير حياة الملايين من السود في المجتمع الأمريكي الذي قبل أن يكون رئيسه أسود من أصل أفريقي مسلم في 20 يناير/ك2 2009 لدورتين انتخابيتين حتى 20 ك2/يناير 2017؛ وفي ذلك مثال ماكان لأحد أن يتصور حدوثه في الأجيال المتأخرة حتى مطلع القرن الحادي والعشرين ..
رحلت مايا أنجيلو عن عالمنا في 28 ماي 2014 عن عمر 68 عاما..

* I Know Why The Caged Bird Sings; By Maya Angelou

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved