المحطة الأخيرة .. تولستوي في السينما !

2010-03-04
واخيرا ليو تولستوي العظيم سنراه يتحرك أمامنا بجسمه الذي يشبه الجبل ولحيته التي تشبه الغمام ، وذلك في فيلم سينمائي للمخرج " مايكل هوفمان " حمل عنوان " المحطة الأخيرة " من بطولة " كريستوفر بلامر " و " هيلين ميرين " وهما الشخصيتان المحوريتان اللتان يجسد فيها بلامر شخصية تولستوي ، وميرين بدور صوفيا ، اضافة الى " سكوت كوبر " و " جيم شيريدان " ، ويظهر فيه تولستوي وقد بلغ الثمانين من العمر بينما صوفيا التي تصغره بعشرات السنين بدت عجوزا وخط الشيب رأسها وامتلئ وجهها الجميل بآخاديد تقول عنها انها بصمات تولستوي تركها رغما عنها .
هوفمان المخرج سلط الأضواء على صوفيا كونها الجزء الاعظم من قصة حياة هذا العبقري ، فقد عاشت معه 48 سنة وانجبت له ثلاتة عشر طفلا ، وقد اعتمد الفيلم في قصته على اليوميات التي احتفظ بها كل من تولستوي وصوفيا وعلى رواياته، خاصةً " الحرب والسلام " ولكي نعيش اجواء الفيلم وكأننا في رحلة مع تولستوي ندخل العام 1910 ونقترب من حديقة منزله الواسعة ونستمع لإحدى المعزوفات الروسية المحببة اليه على فونغرافه الموجود في الحديقة ذاتها والذي طغى على صوته هياج صوفيا واحتدامها معه كونه قد تخلى عن الكثير من مبادئه ونزل مع الشغيلة يعمل معهم ويتنازل لهم حتى عن اسرة نومه .
هوفمان يجعلنا نعيش تلك الدوامة ويختار بتقنية عالية ذلك الزاع الفلسفي الذي عاشه تولستوي بين الزهد والشهوانية ويقترب كثيرا من معتقداته الدينية والتربوية التي تأثر بها غاندي ومارتن لوثر كنغ ، ومع ذلك فإن الفيلم يوحي ضمنا بأن نكران الذات والتشبث بروحانية نبيلة هي أقل قوة ودليل للعيش وسط مجتمعات لاتعرف الحب بقدر معرفتها للمادة ، ومع ان هوفمان قد حقق تعابير جديدة في هذا الفيلم فهو يقول انه يختلف عن "حلم ليلة منتصف الصيف " المنتج عام 1991 لأن الكثير من مشاهد " المحطة الأخيرة " قد لاتكون في شكلها الأصلي لكنها حيوية ولاذعة ويبدو انها تأتي مباشرة من رواياته فهي اكثر ثباتا وهدوءا .
في المحطة الأخيرة يسلط المخرج الأضواء على جزء من حياة الشاب تولستوي وكيف انه قبل زواجه من صوفيا عرف طريق الزنى الذي مر عليه في يومياته ، الا انه ينتقل الى مشهد آخر اكثر حساسية وهو مشهد صوفيا التي تريد من زوجها العودة الى فراشه وهي اشارة ذكية لما تعانيه من حرمان بعد ان كان زوجها رجل الشهوات فترتدي ملابس بيضاء مثل اي عروس وتترك شعرها ينام على كتفيها لكنها فجأة تنقلب الى حيوان يعوي لأن زوجها لايلبي لها تلك العازمة الحسية فتصبح مثل خرقة دمية في اتون عاصفة هوجاء ، هنا ينقلنا المخرج الى شيئ اشبه بالجنون والغيرة لكننا كمشاهدين نحاول ان نعطيها بعض الحق فيما هي به من حرمان .
بلامر الذي جسد تولستوي الثمانيني بذل جهدا واضحا وهو يبدو في سن الشيخوخة خاصة في مشهد المفاضلة بين ان يختار زوجته أو أتباعه ، الا ان سيناريو الفيلم يعطي في النهاية قوة الحب التي يشعر بها تولستوي تجاه الجميع وهو منطق فلسفي عانت منه صوفيا كثيرا ، فالمرأة تريد ان يمنحها الحب كاملا وغير منحاز ، لكنه بدأ بشكل مغاير حيث جعل من اندادها الفقراء والشغيلة منافسين لها فعاشت كل هذه الثورة والهيجان حتى كانت النهاية المأساوية حيث نرى تولستوي يبتعد بجسمه المتعب ناحية سكة الحديد التي له فيها دارة قديمة متهالكة فيسقط امام نافذتها وهو يرنو بنظره صوب المزرعة الكبيرة التي شهدت مجده واسقاطاته ، انه تعبير قد يقودنا الى الشفقة لكنه لاينتقص من عظمة تولستوي .
هوامش
* ديفيد دينبي / ناقد سينمائي امريكي
* مجلة / نيويوركر الامريكية
أحمد فاضل

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved