كان أبو سالم مقدراً مانال صديقه من عناء السفر,فتريثت لزيارته يومين أوثلاثة,بيته يزغرد فرحاً,طليت واجهته بلون جديد,مزدان بالأعلام وعبارات الترحيب بخط الرقعة الجميل ,إحداها تقول: حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً,هنأ أبوسالم صديقه الحاج أحمد بسلامة عودته,وجد عند ه عدداً من المهنئين ,وابنه خالد يدور بينهم في غرفة الاستقبا ل,يقدم لهم ضيافة الحج:المساويك والتمر الحجازي وماء زمزم بكؤوس صغيرة والسبحا ت ذوا ت التسع والتسعين حبة,كا ن يحدّ ثهم عن أدائه مناسك الحج بين مكة والمدينة وسط بحر متلاطم الأمواج من الحجاج, ويحدثهم عن مكابدته في السفر البري بالبولمان السياحي الذي استغرق ذهاباً وإياباً حوالي أربعة أيام, مازالت عظامه تئن من تعب السفر.قا ل أحد مهنئيه: كنت تستطيع اختصارالسفرالمضني الطويل بساعتين على متن الطائرة, فلا تشعربالتعب,ولا بمرورالوقت ,رد عليه الحاج أحمد با بتسامة متكلفة:
ــ أنا أخاف ركوب الطائرة ,ولا آمن على حياتي منها,والأمان بيد الله فالسيارة إذا أصيبت بخلل في سيرها,يصلح خللها,وهي راكنة على الأرض,أمّا الطائرة, فكيف يصلح خللها, وهي في الجو؟لا أثق بسلامة عودتها,وهي قطعة ضخمة من الحديد الثقيل, تطير,وعلى متنها عشرات الركا ب في الجو دون أن تستند على ركائز تحملها,في الحقيقة أنا لا ألوم الموسيقار محمد عبد الوها ب الذي يخا ف ركوبها,والله سبحانه وتعالى يدعونا أن لا نلقي بأنفسنا في التهلكة,ابتسم أبو سالم لدهشة الحاج من الطائرة,دهشته ذكرته بأ يام صباه. قا ل مهنيء آ خر: نحن اليوم ياحاج أسعد حالاً من القدماء,فوسائل النقل المتعددة متوفرة عندنا, نختار منها لأسفارنا مانشاء,ونجوب بهاأقاصي الدنيا وأدانيها بوقت قصير مابالكم القدماء الذين لم يكن أمامهم من خيار في أسفارهم إلآّ الإبل والخيل,قاطعه قدوم زائرآخر, عانق الحاج مهنئاً إياه ,تابع المتحدث كلامه: كان القدماء يحجون بيت الله من أماكن بعيدة بقوافل الإبل ,ترافقها الخيل,وكانت رحلة قوافلهم تستغرق أحياناً أكثر من شهر,يهلك منهم في سفرهم خلق كثير جوعاً وعطشاً ومرضاً وتعباً إذا لم يعترضهم اللصوص وقطاع الطرق, فلا تؤوب القوافل إلى ديارها إلآّ وغاب عنها عدد من الحجاج,أغرى موضوع الحديث أبا سا لم في المشاركة, شمسه جنحت إلى المغيب,وأغلب الظن أنّه موظف متقاعد,قال :,اسمحوا لي أن أروي لكم خبراً سمعته من أبي رحمه الله,كان رواه في مجلسه ذات ليلة,وأنا طفل صغيرعن آخرعهد الحجاج بالقوافل,أنصت إليه الحاضرو ن باهتمام. قال : قال أبي :في طريق عودة قافلة الحجاج إلى ديارها,رأت أول سيارة في حياتها تتجول في شوارع الشام,لم يصدّ ق الحجاج ما رأته عيونهم,فامتنع بعضهم أن يروي هذا المشهد لزائريه ,أحدهم تورّط فحدّثهم عن مشهد عجيب غريب رآه , أنساه الحديث عن أدائه مناسك الحج,سألوه عنه,قال ,وقد فكر:أخشى أن لاتصدقوني إن ذكرته لكم,قالوا:أنت حاج جئت لتوك من الحج,ومثلك يصدق,ولم يستطع التراجع , فشعر با لحرج ,صمت لحظة,وتردد في رواية الخبر,الأنظار شاخصة إليه, لم يعد له مهرب من روايته ,قا ل على مضض ,وقد فوّض أمره إلى الله:والله! لاخفي عنكم شيئاً, ,لقد رأيت في الشام صندوقاً من حديد يمشي من تلقاء نفسه00 تغيّرت ملامح المجلس لهذاالنبأ,وقعد من كان مسترخياً,قال زائر مهنيء: ربما رأيت الصندوق من خلف, وتجرّه خيول من أمام لم ترها00قا ل الحاج:لم أ رخيلاً لامن قدام ولا من خلف ,بل رأيت عربة من حديد تتحرّك بذاتها,والله على ما أقول شهيد,قال آخر:لعل طول السفـرأرهقك,فزاغ بصرك,ولم تعد ترى الخيول!! ثار لغط في المجلس,همس رجل بأذن جاره: لم يغير الحج من طبعه شيئا,عاد من الحج وحصانه يسابق الريح,ليته ما حج00 لفت انتباه الحاضرين رجل يقول:أنا أعرف كيف تتحرك العربة من ذاتها,قالوا له:وكيف؟قال :هذه معجزة إلهية, والله على كل شيء قدير00 قال آخرتعرف القرية خبثه ومكره:العربة - يا جماعة ــ انطلقت بقوة إيمان حجاجنا هذا العام وبنور بركات وجوههم ,تلفت الحاضرون إلى بعضهم, تغامزوا,وغالب المجلس قهقهة كاد ت أن تنفجر منه, هطلت على الحاج أسئلة ساخرة لم يقو على الرد عنها,فخجل,وتمنى لو أنه ظل صامتاً. عقب الحاج أحمد على رواية أبي سالم فقال: السيارة أدهشت قدماءنا, رحمهم الله كم كا نواأغراراً متخلفين !! رد أبو سالم , ولم يشأ تذكيره بدهشته من الطائرة:وماذا نختلف اليوم عنهم؟ أجاب الحاج:كل وسائل الرفاه والحاجات الضرورية متوفرة اليوم والحمد لله, ولا يدهشنا شيء,فلا مجال للمقارنة بيننا وبينهم 0 قال أبو سالم بصوته المتهدج: نعم !نحن اليوم مرفهون ومتحضرون بمنجزات غيرنا, نتباهى بها ,ولايدهشنا شيء منها لأن الغرب - جزاه الله خيراً -ـ أغرقنا بحضارته التي تغلغلت في أدق
تفصيلا ت حياتنا اليومية حتى لم يعد بوسعنا أن نندهش لكل مانراه,
قا ل آخرمتهكماً:أمّا نحن فلم ننجزلأبنائنا شيئاً,ولا ندري ماذا سيقدم جيل اليوم لأبنائه في الغد؟قال أبو سالم,وهو يهم بالا نصراف ,وقد بدا عليه الإرهاق:وماذا سيقدم لهم غير مزيد من منجزات غيره؟
حسين حمدان العسّـا ف
قاص واديب سوري
تخرج من جامعة دمشق، كلية الآداب عام 1972م
نشر العديد من الكتابات في الصحف السورية والعربية
لديه ابحاث قيد الطباعة في كتابين، هما ( مقالات في الأدب واللغة ) و ( صالونات المرأة العربية )
وله قيد الطبع أيضاً مجموعة قصصية