القرصان العظيم/ قصة

2010-12-12

ت//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/ce80a800-b347-4ee7-8236-5d423cab4eab.jpeg شتعلُ في حدقتي عينيه سفينةُ الركاب البعيدة التي أحرقَها رجالُه .. جميعهم كانوا يكبتون غرائزَهم وشهواتِهم أمام الغنائم المُتكوِّمة إلى حين نزول القُرصان الذي يراقب تفسّخَ وهلاكَ السفينة المَنكوبة في أحضانِ البحر .. التفتَ إليهم و أومى لهم بسبّابته باتجاه الشمال .. قطعَ أحدهم بسكّينتهِ الصغيرة الحبالَ المُمسكة بالشراع الأسود الكبير فانتفضَ الشراع كانتفاضِ اللهب فاتحاً فمَهُ الكبير للرياح العاشقة وتعالتْ صيحاتُ الرجال الذين أمسكوا بمجاذيفهم الخشبية الضخمة .. مُجذِّفين بحركة واحدة مُنتظمة .. على إيقاع أنشودة حماسية يُرتلونها بحناجرهم الغليظة .. وتدفعهم الرياحُ القوية على صفحة هذا البحر الواسعِ والمخيف .. الرياحُ مُقدّسة .. فبأمرِها وحكمتِها وسرعتِها يصطادون ويعيشون .. وقرصانهم العظيم هو السيد الأعلى الذي سخَّرته الرياح ليقودَهم .


اقتربَ القرصانُ من النساء السبايا وراح يتفحصهنّ بعينينِ مُخيفتين وصمتٍ مُرعب .. كان هنالك فتاة خائفة تُنزل رأسَها نحو الأرض .. استلَّ سيفَهُ بحركةٍ سريعة فخافَ الجميع وحبسوا أنفاسَهم .. مدَّ مُقدمةَ سيفِهِ الحاد إلى أسفلِ ذقن الفتاة ورفعَ رأسها برقّةٍ وهدوء .. فتاةٌ بلونِ الرمال النقية .. ولون الصواري العالية .. مسكَها بأصابعه المُلطّخة من شعرها وألصقَ رأسها بصدرهِ ورفعَ سيفَهُ عالياً نحو السماء وصَرخ .. للحظات ظنتْ الفتاة أنها ستُقتل ورأت الشمسَ الذهبية التي يقطعها سيفه اللامع والطويل وشعرتْ أنها آخر ما ستشاهده .. تعالتْ أصوات الرجال وركضوا إلى بقية الغنائم من الطعام واللباس والسبايا يقتسمونها كالوحوش .. بينما اقتادَ أحدهم الفتاة إلى حُجرة القرصان السُفلية وخَرج .


كانتْ حُجرةً غريبة ومخيفة .. تخترقُها أشعةُ الشمس من نوافذ بلورية صغيرة ويُحيط بكرسي القرصان دائرة من خيوطِ دخانِ البخّور التي ترتفع نحو السقف وهي تَتمايل .. وعلى أحد الجدران يوجد قلائد وأساور نسائية مُعلقة بواسطة مسامير معقوفة وهناك العديد من ربطات الشعر المُتعددة الألوان .. كانت تنظر للسقف والأشياء بخوف .. سمعتْ حركةً ما .. التفتتْ وراءها بسرعة فكان وجه القرصان على بعد إصبع واحد منها .. شاربُه الأسود ذو الأطرافِ الشقراء ولحيته الكثّة وأنفاسه المُحمّلة بالتبغ والملح زرعتْ في نفسها إشارة مؤكدة باقتراب الموت .. انهارتْ وزحفتْ مُبتعدة عنه إلى إحدى الزوايا لتلتقطَ أنفاسها .. راحت تبحث في أرجاء المكان عن طريقة للهروب .. كانت ألواح السفينة الخشبية تصدر قرقعةً غليظة تبعثُ الاضطراب في النفس ..

خلعَ القرصان سيفَه ودرعَه بهدوء ثقيل .. غمرَ الإبريق العاجي الذي يشبه نابَ الفيل في برميل خشبي ثم رفعه عالياً ليصبّ النبيذَ الخمري في فمه .. بقيتْ قطرات قليلة تتساقط ببطء شديد .. مسحَ شاربَه المُبْتل بطرف يده واقترب من الفتاة الخائفة وهو يفكّ ربطات قميصهِ الأبيض الممزوج بالخمر .. زنوده المملوءة وعضلاته المفتولة تلمع وعروق رقبته ظاهرة ومُتشنجة .. حصانٌ جامحٌ يتقدم .. خلعَ قُبعته ووضعها على رأسها .. لقد كانت ترتجفُ كعصفورٍ مسكين .. عينان زرقاوان لم يرَ مثلهما في أي من غزواته .. بحران مُطلقان لقُرصان عنيد .. فمها الصغير يُشبه نورساً مُحلّقاً يَفرد جناحيه في السماء .. لقد لاحظ القرصان بعينيه الجائعتين تلك الشامات البُنية الصغيرة على امتداد كتفيها .. إنها كالسمسم الرائع المذاق .. غرز في شعرها البني المُتجعد أصابعَه بلطف وراح يشمّ خصلاتها التي لها رائحة الخشب الرطب .. لقد شعر بموجات من العطر تسري في شرايينه وتتغلغل به .. إنها سفينته التي حلم ببنائها بكل ما فيها من جمال وسحر وعظمة .. سفينة خلاصه وحاملة روحه إلى شواطئها .. لقد رأى في لألأة عينيها مصابيحَ مدينةٍ بعيدة تتزينُ بوصوله .


وحيثُ لا أحد من الحثالة اللصوص في الخارج يعلم ما الذي يحدث في غرفة القرصان العظيم .. سلّم القرصان نفسَه بين يدي تلك الفتاة الجميلة .. تكوّمَ على نفسه كدولفين حزين وأغمض عينيه على صدرها كطفل صغير تنساب دموعه ببطء .. أنينُه الذي يُشبه مواءَ قط شريد يُلخّص حجمَ ضعفه وحرمانه الشديدين .. هو لا يريد منها أي شيء .. فقط أن تحضنَهُ لينام .. والسفينة القاطعة عرض البحر تتماوج بهما كأرجوحة خشبية لطفلين تائهين .


عندما استيقظ القرصان صباحاً ورأى حوريتَه السمراء تلبسُ له القلائد والأساور التي كانت معلقة على الجدار وتربط شعرها بشريطة صفراء اللون وتجلس على كرسيه الخشبي كملكةٍ عظيمة .. أحسَّ بغمرة تسيطر على قلبه وشعر بأن جميع النساء اللواتي امتنعنَ عنه وخِفنَ منه قد تجسّدنَ الآن في فتاة واحدة مُتوّجة بالحب .. تجلس أمامه وتفتح له ذراعيها بحنان .. كان بإمكانها أن تقتله ليلاً .


ها هو القرصان العظيم يأمر رجالَه بتغيير مسارِ السفينة .. يريد العودة بساحرتِه إلى ديارها .. يريد إعطاءها حريتها مقابل ما أعطته من حبٍ واعتراف .

نظراتُ الرجال كانت غريبة .. تجمعوا حول بعضهم يتهامسون .. ماذا حلَّ بمَثلهم الأعلى في القوة و الجبروت الذي يهابه كل من يركب البحر .. والذي عوّدَهم أن يرمي سباياهُ للأعماق بعد أن ينام معهنّ لليلة واحدة فقط .. هاهو الآن أمامَهم قد فقدَ هيبتَه وعظمته وخرقَ أعراف البحر .. لقد ضعف أمام فتاة صغيرة جميلة وغيّر كل قوانينهم بين ليلة وضحاها .. إذن لابد من عزْله .. إنها إشارة من الرياح تدعو إلى عزله .. لا وطن للضعفاء .. ولا بحر لقاربٍ مثقوب .


تآمر اللصوص الحثالة واستلّوا سيوفَهم في وجه قرصانِهم الأعزل .. ربطوه وصعدوا به إلى مُقدمة السفينة .. وأتوا بالفتاة السمراء لتشهدَ ما سيحدث به ..

عينا القرصان المربوط بالحبال تنظران إلى محبوبته بألم .. ولكنه استطاع أن يرسم برمادِ حُزنه ابتسامةً على وجهه ليخبرَها بأنه ليس لها ذنبٌ بما يحدث .. ابتسامة لها نكهةُ الاحتراق .

اقتربَ أحدهم من الفتاة وحضنها من الخلف والآخر أخرج سكّينتهُ الحادة وحزَّ عنق القرصان ثم وضعَ رِجلَه على صدره ورفسهُ إلى الماء .. صرختْ الفتاة من هولها وقذفتْ نفسها وراء القرصان إلا أن أحدهم استطاع التقاطها من قدمها .. لقد رآها القرصان قبل هبوطه في الماء .. كانت مُعلقة من قدمِها وتمدُّ يدَها له وتنظر إليه بعينين عاشقتين .. خائفتين .. مُذنبتين .. ما أعظمنا وما أضعف قلوبنا ! .. غاص القرصان العظيم في العمق ودماؤه النازفةُ من عنقه استدعتْ أسماكَ القِرش المُتوحشة لتنهشَ جسدَهُ وتُعلنَ احتراقَ قلبِهِ كسفينةٍ تتفسّخُ وتهلكُ في أحضانِ البحر .


عمرو حاج محمد

Amr.h.m@hotmail.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved