القصد الصوفي وانثيالاته في المجموعة الشعرية الأخيرة ليحيى السماوي

2011-11-18

 " بعيداً عني ... قريباً منكِ "

كلما أبحرفي شعر يحيى السماوي يأخذني المد بعيدا ويتيّهني بين المعنى والمعني حتى إذا تعلقت بإحدى تلك التي عناها أجدني في جَزر منه ثانية وكأنني أعود لأبحر عليّ أجد تفسيرا يفك شفرة شعره . يحيى السماوي ومنذ مجموعته الشعرية الأولى " عيناك دنيا " ، قرأناه عاشقا لجميع من أحب حتى إذا فارقنا هربا من جحيم حاكم ظالم مستبد ونصب خيمته بعيدا عن كل من تغنى بهم أصبح ينمو بشعره كنمو زرعة نادرة ، ورقة ورقة ، وغصن بعد آخر وصولا الى مجموعته الشعرية الأخيرة " بعيدا عني ... قريبا منك " المتفردة بمعانيها والتي أينعت زهرا جميلا بعد طول عناء .

 قصائده في هذه المجموعة انثيالات أفلتت من برزخ الزمن المهجور الذي يعيشه الشاعر عبر بحار وقارات ، وعندما يمسك البداية للبوح بإسم من يحب تغادره الأسماء والحروف فلا يبقى منها إلا وهم الظن :

 واهما كنت بظني

 أن لي

 أمرا على الحرف

 فإن ناديته أصغى ولبى

 فإذا بي لم أجد في لغتي

 إسما جديدا

بالتي قد ملكتني

 فتماهيت بها روحا ..

 وقلبا ..

 ومدادا ..

 هذا الوهم صنعته الغربة بلا شك ، لكنه استحال الى حقيقة بعد ان أدرك الشاعر ان من الممكن استحضار من يأتي على البال خاصة إذا كان الذي يحبه ، يعشقه ، ويتمنى ان يراه ماثلا بين يديه حتى وإن كان صدى رجعة روحه أو كما قال :

بت أدعوها " التي ليست تُسمى " ..

 فهي الشيئ الخرافي

 الذي أعجز قاموسي

 فأطلقت عليه " اللا أحد "

 وهي الروح

 التي أوجدها الله

 على شكل جسد

 وهي اللحظة ..

والبرهة ..

 والدهر الأبد

 زفها الله لقلبي

 فاتحدنا

من دم الشعر

 وبيتا من حبور

 سقفه دون عمد

 أبيات البداية التي أعطاها السماوي رقما واحدا شكلت ولوجا الى التي دعاها بلا إسم ، لكنه في أبياته الأخرى التي أعطاها رقما ثانيا منحها الهوية وسماها بالتي تختصر الأسماء ، وقد كان بإمكانه ان يعطي لقصائده عناوين دلالة ، لكنه أرادها ان تكون " مطولة " حتى يشي بكل ما تحمله جوانحه من عواطف وأحاسيس سما بها فوق الأسماء وهي نزعة صوفية قل نظيرها متأتية من فلسفة التوحد مع من يحب وهذا هو ديدن المتصوفة ، لكن شاعرنا هنا أراد ان يتوحد مع من احب فجعلها " الزهراء " خلافا لهم وهو ما أشاراليه ناقدنا المتألق د . حسين سرمك حسن في مقدمته الرائعة للمجموعة الشعرية والتي اخذت مساحة طويلة منها بلغت 58 صفحة ، وهي تعني كل شيئ لديه ، أصبحت ملهمته وإلا لما أعطانا السماوي كل هذه المطولة الشعرية وهي بالتالي باحته نحو الصيرورة :

مرة

 كرعليّ الحزن والشوق

 فمت

 شيع الأطفال والعشاق جثماني ..

 ولكن

 قبل دفني

 هبطت ملهمتي من عرشها الصوفي

صاحت :

أيها الجاثم في التابوت : إنهض ..

فبعثت

نابضا ..

حيا ..

كأني

لم أ كن قبلُ ولدت !

من يتأمل هذا القول يشعر ان " الموت " و " البعث " متلازمة حسية لديه والثالثة فيهم " ملهمته " التي مدت يداها له وهو في تخيله الموتي فقام ، هكذا يمكن الحديث عن التفاعل بين هذه المكونات ضمن نسيج

 النص بحيث يغذي الرافد الصوفي مادة الكتابة جاعلا - أي النص - حاجزا بين رؤى ظاهرية وأخرى دلالية ، فترددت لدى الشاعر عبر مطولته أسماء ورموز ووقائع ، فالقانتة ، الزاهدة ، النهر ، الفراش ، الشذى ، الينبوع ، والزنابق العذراء كلها تعني " الزهراء " التي يراها ويكلمها ويستصرخها :

 جئت ياقانتتي الزهراء

 أشكوني اليك

 فأنا أصبحت غيري

 سُفني ترفض أن تبحر

 إلا

 لمراسي شاطئيك ..

وفي زحمة كل تلك الإشارات يجيئ الدال " صوفائيل " مبعوثا من القانتة الزهراء في المقطع الثاني عشر ليرفع عنه ذلك الخوف وهي دلالات الخلاص في المعنى الصوفي :

جاءني

في يوم عيد الورد " صوفائيل " ..

مبعوثا من القانتة الزهراء

حياني

وألقى للعصافير على النخلة

قمحا ..

.......

ذعرت روحي..

تساءلت : هل الساعة حانت ؟

فتشاهدت ..

وكبرت ..

وحوقلت ..

وبسملت ..

فصوفائيل لايكذب

صوفائيل مبعوث التي أكرمها الله

فكانت كعبة العشق

وناموس النقاء

........

صاح " صوفائيل " بي :

يا سادن الصوفية العذراء لاتفزع ..

فإن الخير جاء

ومع ان الشاعر مأخوذ بحديث الرؤية وهاجس اكتشاف لذة العين إنطلاقا من العشق كمحور مركزي يتخلل النص في مختلف أبعاده وتجلياته ، فإننا نقرأ تلك الرؤية وذلك الهاجس حتى نهاية مطولته الشعرية :

اليوم قد أكملت سيفرك

فانطلق برسالة العشق المقدس

كن رسولي في الهوى

حتى يعاد الإعتبار

لعقل " قيس بن الملوح "

و " الشريد السومري "

ويستعيد عفافه :

الوجد ..

التهيّم..

يستحيل العشق خبزا للقلوب

فلا يعود الحزن سيماء المحيا

يحيى السماوي أخذنا بشعره " بعيدا عني . .. قريبا منك " خارج الزمان والمكان المولدة لأسماء وأصوات ورسائل وضمائر متكلمة تتقاطع عند فكرة الأصل ومبادئ المجاهدة النفسية والرغبة والموت - بحسب تعبير الكاتب المغربي موليم العروسي وهو يعلق على ديوان الشاعر المغربي محمد علوط " مدارج الليلة الموعودة " - لكنه جمع الأصل مع الصورة التي توحد فيها الظاهر والباطن والمعلوم والمجهول ، الواحد والكثرة ، الحقيقة والظل في حلم صوفي المعنى توحد مع ذلك الطيف الجميل

للحبيبة التي تقول له :

يا يحيى السماوي

المضرج بالصبابة كن بعزة سيد الشجر النخيل

يموت منتصبا ..

ومثل الورد :

لو ذبحوه يبقى عطره

يذكو شذيا

العشق باب للخلود

فإن " قيس بن الملوح "

لم يزل لليوم حيا !

المجموعة الشعرية صدرت عن دار الينابيع بدمشق ب230 صفحة من القطع المتوسط وبطباعة فاخرة تخللتها لوحات جميلة ومعبرة إمتزجت مع كلام الشاعر وأعطتنا تلك الرائحة الذكية التي وجدها السماوي أخيرا ، وهي للفنان المبدع د . مصدق الحبيب .

أحمد فاضل

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved