الاسطورة باغانيني على عود الموسيقار نصير شمّه ..

2010-07-02
سومري لايعرف التعب ابدا ، حمل العود عشقا أزليا وجال معه اطراف الكون حتى عُمد عميدا له ، ومع طول اغتراباته عن وطنه فإنه لم ينسى ولو للحظة واحدة أرضه وناسه ، ويحن أبدا لمرتع طفولته وصباه .
نصير شمّه مع عوده يشكلان رمزا للفن العربي الأصيل الذي نجح في ان يجعله متمازجا مع الموسيقى العالمية وفتح آفاقا جديدة له وذلك بأداءه لرائعة الموسيقار العالمي " باغانيني " كابريس 24 ، في حفل بمسرح قصر الامارات في أبو ظبي مساء الأحد 4 إبريل / نيسان 2010 ، فكانت امسية ساحرة تألق خلالها شمّه بأداء متميز عده المعنيون بهذا الفن تحديا كبيرا وجرأة فائقة لابد من التوقف عندها نظرا لكون هذه المقطوعة قد ألفت خصيصا لأدائها في عزف منفرد على الكمان .
وباغانيني لمن لايعرفه أحد يعد اسطورة موسيقية لم يقترب من عزف أعماله الكبيرة إلا من خبرموسيقاه وعرف تفانينها ، هو " نيكولو باغانيني " ( 27 تشرين الاول 1782- 27 ايار 1840 ) ولد في جنوا بايطاليا وكان عازفا للكمان والجيتار ، وملحنا موهوبا خاصة في مقطوعاته الموسيقية لآلة الكمان وترك بصماته عليها ، ومن اشهر مقطوعاته كابريس رقم 24 وكان مصدر إلهام للكثير من الملحنيين البارزين .
جذب باغانيني الانتباه عام 1813 بعد ان تمرنت اصابعه على تلك الآلة الوترية واخذ يحقق معها معجزاته ، فعزف في مدينة سكالا بميلانو الفرنسية فادهش الحضور ، ونتيجة لذلك بدأ يغزو مسارح العرض الموسيقي وصالوناتها ودخل في منافسات حادة مع " تشارلز فيليب " و " سبور لودفيغ " وهما من كبار الموسيقيين الفرنسيين ، سافر بعدها الى المانيا وفلندا وبوهيميا في ستراسبورغ ، واتبعها بجولات في انحاء متفرقة من المدن الفرنسية والمملكة المتحدة وايرلندا ، وأظهر قدرات عالية في عرض الموسيقى الشعبية الايطالية على الكمان ، ونشر العديد من مؤلفاته التي تخص هذه الآلة ، كما انه ارسى قواعد ثابتة ظلت حاضرة ليومنا هذا باستعماله التوافقيات العزفية بين يده اليمنى واصابعه اليسرى حتى ليخال من يستمع اليه ان هناك اكثر من آلة تطرب السامعين ،وطور كذلك التقنيات اللحنية التي تعتبر انجازا فنيا عاليا يستحيل الوصول اليها بمعايير اليوم .
اصطحب شمّه معه لهذا المهرجان أشهر فرقة موسيقية عربية هي " أوركسترا الجمعية الفلهارمونية المصرية " بقيادة الموسيقي الكبير المايسترو " أحمد الصعيدي " ، التي قدمت معه مقطوعة باغانيني سالفة الذكر ، اضافة الى مقطوعات اخرى ابهرت الحضور لجوكوين رودريجو وأنطونيو فيفالدي مع عدد من مقطوعات شمّه الخاصة .
هذه هي المرة الأولى عالميا التي يقدم فيها عود الموسيقار نصير شمّه روائع لموسيقى عالمية ، ولم يكتفي بها بل شنف اسماع الحضور باداء منفرد لمقطوعة المؤلف الموسيقي الشهير " جياكومو بوتشيني " ثم مقطوعة " للروح حديث " ، وسماعي عجم للموسيقار العراقي الفلسطيني الاصل الراحل " روحي الخماش " ، وادى ببراعة مقطوعة " على جناح فراشة " من تأليفه ايضا ، هذا التمازج الفني بين مدارس مختلفة للموسيقى استطاع فناننا ان يلخص مقولة ان لا حدود للفن وهو بهذا الانجاز نقل موسيقانا الشرقية الى آفاق جديدة وعالمية ، ففي لقاء اجرته معه إحدى الصحف العربية اجاب عن سؤال محاوره أحمد بوبس الذي قال له :
- ماذا تسعى في موسيقاك سواء في العزف أو التأليف ؟
قال : ( أنا اعتقد ان الخطاب الإنساني في الموسيقى هو اسمى الخطابات ، هذا الخطاب يتحمل كل الرسائل على كل مستويات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية ، الخطاب كل ما يشغل الانسان ، هو يخضع ضمن منظومة خطاب ثقافي انساني من المبدع الى المتلقي ، فأنا هدفي في الموسيقى أن تخاطب هذه الموسيقى الذات الانسانية بغض النظر عن قطريتها أو عروبتها أو عالميتها ، أخاطب الناس ، لذلك هذه الموسيقى وصلت الى العالم لأن الخطاب إنساني صرف ) .
ولأنه يعتز بعراقيته ويفخر ان بلده علّم العالم فقد اجاب عن سؤال :
- يوجد بداخلك إنسان سومري ، ماذا تقصد بهذه العبارة ؟
قال : ( اعتقد ان كل انسان موجود في هذه الدنيا يكمل دور انسان آخر ، ربما هذا يتعلق بالأرواح وتناقلها من جيل الى جيل ، أنا في احلام يقظتي وفي وحدتي وفي تمريني ، أجد نفسي في سومر اكثر من أي مكان آخر والحضارة السومرية غنية بفنانين كبار ، بفن ونحت وجماليات ، لا أدري لماذا دائما اتخيل نفسي في زمن غير هذا الزمن واتخيل حولي أنا غير هؤلاء الناس ، أجدني في زمان ماض ، لكن عيني دائما على المستقبل هي جدلية أنا أعيشها طول عمري وفي موسيقاي ، درست لمدة أربع سنوات بحوثا موسيقية حتى أجد جوابا لسؤالي ، سؤال يؤجج لدي اسئلة عديدة ، هل فعلا نحن عشنا زمانا آخرا ، الغريب أنني كنت في قطار بين دولتين اوربيتين وكان يجلس مقابلي رجل دين مسيحي ، ولم يشاهد معي عودا وقال لي : انت شخص مشهور ، قلت له : تعرفني من قبل ؟ قال : لا ، لكنك شخص مشهور ، وأنت هذه حياتك ) .
نصير شمّه من الفنانين الموسيقيين النادرين في عصرنا الحاضر ، فمع استخدامه في العزف اصابعه الخمسة وباطن الكف والريشة واسلوب النقر والعزف بيد واحدة فقد اضاف للعود وترا ثامنا ، وكلها يعتبرها ادوات تعبيرية للأداء ، يقول عن ذلك : ( المونوتون * الذي بقي فيه العود اصبح قيدا على الآلة ، والتفكير من خلال الآلات الموسيقية تطور ، ونحن بقينا اسرى ذلك المونوتون الذي يخرج عن ذلك ولو قليلا ، يقولون عنه انه خرب التراث ، نحن علينا أن نضع بصمتنا اليوم حتى يقول الجيل الذي بعدنا أننا ابدعنا وصار تراثا جديدا ، كل الافكار التي افكر فيها والتي اسعى لتحقيقها هي افكار للتلوين في الآداء ولإعطاء فرص للآخرين كي يفكروا بحرية ، هذه آلة ليست مقدسة ، آلة صنعها بشر ، وبشر عملوا عليها ، وبشرصنعوا تراثها ونحن مثلهم ، نستطيع ان نعمل اشياء اخرى ) .
سر محبة الجمهور للموسيقارشمّه أنه يحب أن يقدم افكارا جديدة ، ومع ان سماعياته * كثيرة لكنه يشعر ان السماعي ليس دائما ينفع على خشبة المسرح ، فالسماعي يكون افضل في التسجيلات منه على المسرح كما يقول ، ولديه اسطوانة فيها سماعي استوحاها من فكرة للشاعر محمود درويش عنوانها " تعاليم حورية " اضافة لقالب " اللونغا " * الذي قدمه كثيرا .
أول اسطوانة صدرت له عام 1994 عن معهد العالم العربي بباريس ، واصدر اسطوانته الثانية في اسبانيا ، لكنه يعترف انه مقل في اصداراته ، فبعد عشر سنوات اصدر اسطوانة عنوانها " مقامات زرياب " وهي عبارة عن بحث في المقامات التي نقلها " زرياب " من بغداد الى الاندلس ، اخذ من هذه المقامات واضاف اليها اعمالا اخرى ، كما اصدر اسطوانة عزف منفرد وعنوانها " هلال " فيها شيئ مفقود عربيا هو موسيقى " الحجرة الغربية " يقول عنها شمّه : ( نحن عندنا موسيقى وغناء معا ، لكن الموسيقى الصامتة قليلة جدا ، بدأت أعمل من عدة سنوات على فكرة الموسيقى الصامتة وخلاصتها موجودة في هذه الاسطوانة التي موسيقاها معزوفة مع فرقة " عيون " التي تألفت من مجموعة من الشباب في مصر أمضيت معهم ورشة عمل دامت سنتين ، بعد ذلك قدمت أول تجربة معهم ) .
هذا هو نصير شمّه الذي اقام على أرض مصر بيتا للعود العراقي وعلم اجيالا من الموسيقيين تقنيات العزف على آلته ، كما أنجز دراسات أكاديمية حول هذه الآلة الشرقية العريقة ،ومن أبرز إبداعاته الاخرى إستحداث طريقة جديدة للعزف على العود بيد واحدة ، اضافة الى ابتكاره عودا بثمانية اوتار معتمدا على المخططات التي ألفها " الفارابي " في القرن التاسع ، فضلا عن تأليفه الاعمال الموسيقية للافلام ، أما اخر انجازاته التي لن تكون الاخيرة هو عزفه لمقطوعات عالمية وادخالها على الآلة الشرقية العود ، مازجا بين روح باغانيني وزرياب في أول تجربة فنية يشهدها العالم .
هوامش /
* المونوتون / وهو مايطلق عليه ب ( اللازمة ) أو بلغة الموسيقيين ب ( مونوتون ) ، تتكرر بعد كل مقطع جديد ومختلف عما قبله وبعده .
* السماعيات / هو شكل من اشكال التآليف الموسيقية يكون مبنيا على إيقاع السماعي الثقيل 10 / 8 ، يتكون عادة من أربعة حركات ( خانات ) وتسليم .
تكون الحركات الثلاثة الاولى مبنية على إيقاع ثقيل ، أما الحركة الرابعة فهي غير مشروطة بذلك وتكون غالبا مبنية على أحد الايقاعات الغير
ثنائية مثلا 3 / 4 أو 7 / 8 أو 10 / 16 .
* اللونغا / هي قطعة موسيقية مؤلفة من خمسة مقاطع ويسمى كل مقطع ( خانة ) أما المقطع الثاني فيسمى ( التسليم ) ويعاد بعد كل خانة ، وغالبا ما تكون
اللونغا على ايقاع وحدة متوسطة 2 / 4 وبسرعة وحيوية مثل ( لونغا رياض ) نسبة للموسيقار رياض السنباطي ويعزى اختراع صيغة اللونغا الى الموسيقيين الاتراك .

أحمد فاضل

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved