
يشكل التراث بفروعه المختلفة وبيئاته المتنوعة وحدة ثقافية متكاملة شكلها الإنسان عبر تاريخه الطويل بتفكيره وتجاربه وإبداعاته وملاحظاته وتأملاته وفلسفته المتراكمة عبر الزمان . ولعب هذا الإرث الثقافي دوراً كبيراً في حفظ بقاء الإنسان لحياته وسيطرته علي الطبيعة وتغلبه علي ما فيها من معضلات، وإيجاد حلول مناسبة لما يواجهه من مشكلات .
ومفهوم التراث بما يحمله من مضامين ودلالات ليس وليد الحاضر، بل يمتد بجذوره عبر فترات زمنية مترامية تصل إن صح القول إلي القرن الثالث عشر، فكان يقال أنذاك " إرث الرب" وهو مضمون يلقي بدلالاته علي شعب اختاره الله كمُلك خاص به - وفقاً لما كان سائداً من معتقدات أنذاك - واستُخدم المفهوم ايضاً للإشارة إلي الإرث أو الميراث، حيث كان يدل المفهوم علي انتقال ملكية الأشياء عبر الأجيال .
أما في الاستعمالات الحديثة لمفهوم التراث فإنه يشير إلي كل ما اكتسبه الفرد من عادات وتقاليد ...الخ بحكم ظروف ميلاده ولذلك يعرف التراث في كثير من الأحيان بأنه ما تبقي من الماضي ماثلاً في الحاضر واستمر مقبولاً للذين آل إليهم وفاعلأ فيهم لدرجة تجعلهم يتناقلونه بدورهم علي مر الأجيال .
ويلاحظ أن مفهوم التراث أخذ منذ أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين طابعاً سياسياً، يؤكد في ثناياه علي أن الماضي لا يتم تسويقه وترويجه بسهولة ويسر نظراً للعلاقة الجدلية بين الإتجاه المحافظ والاتجاه الداعي للتحلل من كل ما هو تقليدي ومحافظ وتراثي .
وظهر نتيجة هذه الجدلية منظمات وهيئات جديدة أهتمت بالتراث العالمي والمحلي منها ما هو حكومي رسمي ومنها تطوعي وأهلي .. وغير ذلك، كما ظهرت بعض المصطلحات الجديدة على الساحة العالمية لم تكن موجودة من قبل مثل مصطلح سياسات التراث، وأصبح هناك إهتمام غير مسبوق بالتراث في مختلف المناحي، ففي الدول الغربية على سبيل المثال ظهر إهتمام بالأطلال القديمة للثورة الصناعية الأولي – كالمناجم والمطاحن وأرصفة السفن – وأَعيد تشكيلها بشكل جديد يسمح باستقطاب السياح إليها . وكذلك الحال بالنسبة للمباني القديمة سواء كانت مباني متواضعة أم باذخة . ولم يقتصر الأمر على هذا فقط بل أمتد ليشمل كل ما هو قديم، فأصبح ما من جزء من الماضي التاريخي إلا ويدخل ضمن التراث .
كما ساهمت دراسات التراث الشعبي بشكل كبير في بناء البلدان الغربية وإبراز هويتها وتأجيج المشاعر الوطنية بها ودفع عجلة التنمية بداخلها. ولم يقصر الأمر على الدول الغربية فيما بعد خاصة بعد اتساع حركات التحرر واستقلال غالبية شعوب العالم، حيث فطنت معظم هذه البلدان لأهمية التراث الشعبي هي الأخري في بلدانهم فعملوا على الإستفادة منه بمختلف الطرق في عمليات التنمية . وساعدهم في ذلك بعض المنظمات والهيئات الدولية مثل اليونسكو .
وبذلك يتضح جلياً أهمية التراث في حياتنا اليومية سواء علي المستوي العالمي أو المحلي . لأن التراث لأي ثقافة بمثابة الجذور التي تعمل علي ترسيخ تلك الثقافة وتدعم هوية أفرادها على مختلف العصور .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
- بياربونت ,ميشال إيزار وأخرون : معجم الإثنولوجيا والأنتروبولوجيا , ترجمة . مصباح الصمد , ط2 , المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (مجد) , بيروت , لبنان , 2011
- طوني بينيت , لورانس غروسبيرغ , ميغان موريس : مفاتيح إصطلاحية جديدة . معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع , ترجمة . سعيد الغانمي , المنظمة العربية للترجمة , لبنان 2010
- محمود مفلح البكر : مدخل البحث الميداني في التراث الشعبي . عرض- مصطلحات – توثيق – مقترحات – آفاق , منشورات وزارة الثقافة , مديرية التراث الشعبي , دمشق , سوريا , 2009
- محمد عبدالوهاب : آليات التعامل مع الموروث الشعبي الياباني في عهد الميجي . دراسة أنثروبولوجية "في" المؤتمر الدولي مائة وخمسون عام علي إصلاحات ميجي , المركز العلمي الياباني , جامعة القاهرة , 22-23 سبتمبر 2018م