لوكليزيو في "الاستجواب"

2011-01-20
كتابة محمومة وحوارات حافلة بالعذاب !
عن سيمون أند شوستر كبرى دور النشر بنيويورك صدرت الترجمة الانكليزية لرواية " الاستجواب " للروائي الفرنسي " جان ماري غوستاف لوكليزيو" الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2008 ، كانت هذه الرواية قد صدرت لأول مرة بطبعتها الفرنسية عام 1963 وكان لصدورها آنذاك وقع الزلزال على الشارع الثقافي الفرنسي حيث تصدرت واجهات المكتبات المعروفة هناك وحصل مؤلفها على جائزة رينودو وهو لازال في الثالثة والعشرين من عمره .
ونحن حينما نتذكر تلك الرواية فإننا نتذكر معها وقائع تلك الأيام التي حاول مؤلفها ان يطرحها امامنا وكأننا نعيش شخوصها ثانية بعد مرور كل تلك السنوات على صدورها .
لوكليزيو كان قد عكف على تأليفها من خلال كتابتها المحمومة في الغرف الخلفية لمقاهي باريس ، في وقت سبق ميعاد تجنيده بشهور في صفوف القوات الفرنسية في الجزائر التي يقول عنها : ( لقد كان وقتا صعبا وخشنا تلك التي عشتها وعاشها غيري من الفرنسيين ، كون هذه الحرب كانت خارج ارادتنا ) .
جميل ان يكون من يرتدي بزة الحرب كاتبا روائيا فهو الوحيد القادر على ترجمة المشاعر الانسانية مع أزيز الرصاص المتطاير وسط هدير سرف الدبابات وقذائف المدفعية ، انه شعور لايعرفه غيره وهكذا ذهب لوكليزيو حانقا على كل شيئ اسمه حرب .
آدم بولو الذي يروي قصته لوكليزيو في الاستجواب ، يبلغ من العمر 29 عاما يقول عنه انه ليس متأكدا ما إذا كان قد غادر لتوه الجيش أو المصحة العقلية ، هذه الحيرة يضعنا فيها المؤلف وسط متاهة لايفصح عنها بسهولة كون الاستجواب نفسه لايظهر إلا في الصفحات الاخيرة منها ، أما الحقيقي منه فهو نهج الحياة الذي يعيشه آدم في منزل فارغ بالقرب من أحد الشواطئ الذي يقضي فيه الساعات الطوال محدقا عبر نافذته ومتسكعا تارة في سفينة مهجورة ومحطمة يقضي جالسا فوق كراسيها ساعات يكتب لحبيبته ميشيل رسائل يبثها فيها ذلك الفراغ الذي يعيشه ويحكي عن ذهابه احيانا الى المدينة باحثا عن الطعام والسكائر بفضل بعض الدراهم المتبقية لديه ، متأملا ومتسائلا في الوقت نفسه عن مدى أهمية الحياة التي يعيشها مدركا ان المسؤولية الملقاة على عاتقه كرجل كبيرة للتغلب على صعوباتها .
بجانب الامواج المتلاطمة التي تأتي من البحر يحاول لوكليزيو استكشاف الافكار التي تتلاطم هي ايضا مع آدم ، من خلال تلك الرسائل التي يكتبها لميشيل يقول في احداها : ( ان الشمس الحارقة تمضي في سماء عارية ووسط ريف مجرد من كل لون ، منكمش على نفسه شيئا فشيئا ، في ظل حرارة التربة المتشققة التي تحول عشبه الى لون أصفر في طريقه الى الموت ، يبدو وكأن الصيف لن ينتهي ابدا ) ، هذه المشاعر يحددها آدم بايقاع مجدب لحياته ينقلها من طبيعة المكان لتتوائم مع طبيعته الراكدة التي يصعب فيها رصد التفاصيل والاشياء والملامح .
لوكليزيو في معظم شخصيات رواياته يرحل الى عالم من التيه والتطواف ، التطواف الذي يؤسس وجود الشخصية ويبرهن على حريتها ، وغالبا ما تكون هذه الشخصيات لمراهقين ، أنقياء جدا ، وفي الوقت ذاته قساة جدا ، ينطلقون في الحياة ، عليهم واجب التغلب على الصعاب لإنقاذ العالم وأنفسهم من التدمير والفساد ، وكذلك فإن الحضور القوي للشخصيات النسائية يثير الاهتمام ، إنهن من ينقلن الذاكرة والتجربة والنقاء .
جان ماري غوستاف لوكليزيو المولود في نيس بفرنسا عام 1940 يدين في توجهه القرائي الى عائلته التي اكتشف انها تملك اطنان من الكتب تملئ منزلهما العائلي ، اضافة الى ان الجدة كانت تملك مخزونا كبيرا من الحكايات لازال يتذكرها كلما آوى الى الفراش ، وعند رحيله الى نيجيريا للقاء والده الذي كان يعمل طبيبا استعماريا في الجيش البريطاني حيث امضى عاما هناك ، يكتب خلال الرحلة البحرية التي اخذته الى هناك محاولتين روائيتين " سفر طويل " و " أورادي السوداء " استعادهما فيما بعد في عدد من أعماله .
تنقله مع والده البريطاني ذي الأصول البريتونية الموريسية وأمه الفرنسية منحاه فرصة للتعرف على مناطق عديدة منها نيجيريا والمكسيك وبانكوك حيث كان يؤدي خدمته العسكرية فيها والتي طرد منها بسبب إدلائه باقوال لصحيفة لي فيغارو عن دعارة الاطفال في تايلند وتورط القوات الفرنسية فيها ، وعند رحيله الى المكسيك صُدم بواقع آخر حيث بدأ العمل على دراسة تراث الهنود الحمر ، فقد شارك ما بين 1970 - 1974 الشعوب الهندية في مقاطعة دارين البنمية حياتها ، حيث كتب عن هذه التجربة يقول : ( إنها صدمة حسية كبيرة ، صعبة ، كان الجو حارا ، وكان عليّ ان أمشي مسافات طويلة على الاقدام ، كان عليّ أن أصبح خشنا ، صلبا ، منذ تلك اللحظة ، اللحظة التي لامست فيها هذا العالم لم أعد كائنا عقليا ، اثرت هذه اللاعقلية فيما بعد في كل ما كتبت ) .
وهكذا يكرس لوكليزيو العديد من كتبه حول المكسيك والهنود الحمر ، منها ترجمات عن النصوص القديمة " نبوءات شيلام بالام " الصادرة عام 1979 ، و " علاقة ميشوكان " و " الحلم المكسيكي " عام 1985 ، اعماله هذه حققت نجاحا كبيرا في مبيعاتها ، وفي ذات الفترة يصبح عضوا في لجنة قراءة منشورات غاليمار ، وبعد ثلاثة سنوات وتحديدا في العام 1988 يقع في مواجهة مع الاوساط الصهيونية في فرنسا التي عدته مشبوها على غرار " جان جينيه " بعد ان نشر جزءا من روايته " نجمة متنقلة " التي كان يعمل على كتابتها في مجلة الدراسات الفلسطينية ، متناولا فيها مأساة اللاجئين الفلسطينيين والمراحل الأولى من تشكل المخيم الفلسطيني .
يمثل لوكليزيو في أعماله الكاتب الذي يبحث عن صوت الآخر ، سعيا الى رفض أساطير العالم الغربي الزائفة المدمرة والهارب من معطياتها وشروطها ، يقول عن ذلك : ( من خلال علاقتي بالهنود غيرت الصورة التي احملها عن الزمن ، كنت مذعورا بكثير من الاشياء التي لم تعد ترعبني ، الخوف من الموت ، المرض ، القلق من المستقبل ، ذلك لم يعد يرعبني الآن .. ترعبني فكرة أن أطفالي يمكنهم ان يعرفوا المرض أو الموت ، كذلك الحروب العبثية ، أو الوحشية مثل التي عشناها ، وكذلك احتمال وقوع الكوارث البيئية ، إن مسؤوليتنا أمام اجيال المستقبل مسؤولية كاملة ، إذا تعلمنا العيش مثلما يعيش الهنود الاميركيون أو مثل هؤلاء سكان الصحراء ، بالتأكيد لن يكون لدينا هذا القدر من الكوارث ، بالتأكيد لن نكون بالدرجة ذاتها من الكمال التقني ، ولكننا لن نهدر بهذه السهولة فرصتنا للحياة ..هنالك ضرورة ملحة لسماع اصوات اخرى ، للإنصات الى اصوات لاندعها تجيئ الينا ، اصوات أناس لانسمعهم لأنهم استهين بهم لوقت طويل ، أو لأن عددهم ضئيل ، ولكن لديهم الكثير من الاشياء لنتعلمها ) .
ذلك قوله عن التجربة الحياتية التي عاشها ونقل قسما منها الى ما كتبه من روايات ، في الاستجواب كان قد نقل اليها وعن طريق بطلها آدم شيئا منها ، نرصد تركيزه واكتشافه لطرق الوجود ، طرق الرؤية ، ونحن نتابعه مذهولين ، وهو ينسل الى الحيوانات ، الى شجرة ولا نراه يقوم بعمل معين ، ولا يتعرض الى ما يشغل انتباهه ويصرفه عن التركيز على ما يفكر فيه ، وبهذا يبدو لنا تحت تصرف الحياة تماما ، الحياة كلها باستثناء مجتمع الناس ، وتحت هذا الافق تنتهي الرواية .
لوكليزيو أحد الكتاب الغربيين الذين اقتحموا العالم الهامشي للمجتمع المعاصر ، ليكشف عن التعايش ما بين قسوة الحياة ورقة المشاعر والعواطف ، ناقلا هذا الهامش الى قلب الحياة .
لم يتردد النقاد في أن يقولوا عن هذه الرواية انها : ( المرحلة التالية للرواية الفرنسية الجديدة ، وشبهوا مؤلفها بكافكا ، وانه ينحدر مباشرة من جويس ومن صمويل بيكيت ، وانه لايشبه أحدا وقد بادر ألف من الفرنسيين إلى شراء نسخ من الرواية فور صدورها وقالوا عنها انها غريبة وجميلة ) ، بينما لمّح بعضهم على ان لوكليزيو يسوده التخبط وهو يسرد احداثا لشخوص رواياته ، لكنه يظل وفيا لكتاباته ولروحه ، روح نقلت من هذا العالم كي تجد ملجئها الوحيد في الفطرة الأولى .
أحمد فاضل

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved