الولايات الانثوية المتحدة

2015-11-29
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/f01483d0-ac58-43e0-94aa-aa47c172870d.jpeg
غالبا ما أقف مذهولا امام مدرس التأريخ..
 
هذه الحصة تثير في القلق، واكثر ما اكرهه فيها هو الحديث عما كان يجري في غابر الازمان، لانني اعده فاصلا بين الخيال و الواقع، وكل الاساطير التي يظنها مدرس التأريخ حقائق لا تقبل نقيضا لها، تجعلني اغزل منها الاف من علامات الاستفهام..

نحن نذم علنا، وسرا تلك الولايات.. غير ان كل ما في اسواقنا مستورد منها، معظم نسائنا يحلمن بالعبور نحوها، وتمنعهن امومتهن عن اجتياز الحدود المتوجة بقبة عاطفة الامومة لحماية الولايات من اي هجوم نووي نحوها..

والنووي هذا جعلني اظن ان كل ما يقال عن حياة من سبقونا هو ضرب من الخيال..

صحيح ان المدرسة نظمت عدة رحلات نحو متاحف الاسلحة القديمة، وزيارات للمعارض الفوتوغرافية التي تصف بربرية القرن الحادي والعشرين، وما سبقه من قرون، غير اني عجزت تماما عن رسم صورة كاملة لأجدادنا القتلة.. هم في بعض الاحيان يشبهوننا، وفي احيان كثيرة لا يختلفون عن الحيوانات المفترسة في غابة لم تعبث بها يد انسان، كما ان الجثث المحنطة لضحايا الكتابة المسمارية قد اتلفت، ولم يعد لها من وجود سوى ما يحيطها من اسرار وكتمان.. وتسريبات تثير القشعريرة والخوف في جسد اي رجل..

جدتي هي اكثر النساء تحمسا للحديث عن مدينة نهداد، رغم ذاكرتها المعطوبة..

سمعتها في طفولتي وهي تروي الحكايات عن وادٍ جميل، كان يوما ما ساحة حرب لم تنته الا بظهور غريب لعصابات نسوية بدت شديدة القسوة مع خصومها الرجال.. استولت على مساحات شاسعة من الاراضي الجرداء بعد حرب ذكورية دامت قرنا من الزمان، انهته تلك النسوة بتعليق الرجال من اعضائهم التناسلية في الشوارع والساحات، وظن العالم ان هاته التجمعات المجنونة ستتحول الىقبائل من آكلات لحوم البشر مع كمية سلاح تكفي لمسح كل اثر للحياة خارج البقع التي وضعن ايديهن عليها ، و بلغ الخوف من وحشية مصير من يقرب منهن حدا لا يجرؤ على اجتيازه اي رجل، فهن لا يقتلن الرجال كما كن يفعلن في بداية ثورتهن، بل يقطعن الاعضاء الذكرية، ويعدن ارسال الضحايا من حيث اتوا، وبين افخاذهم بقعة ملساء حفرت عليها بالمسامير رسائل مرعبة.. ثم انقطعت اخبار تلك العصابات، ولم تتوفر الشجاعة لدى اي رجل لدخول دولة البتر والكتابة المسمارية على مواضع فحولتهم..

غير ان النسوة في مختلف انحاء العالم لم ينقطعن عن زيارة بلد عصابات لا تعاملهن الا بود، وتكرمهن ايما اكرام لقاء نشر دعوتهن لانضمام المزيد من النساء اليهن دون شرط سوى عدم اصطحاب ذكور..

ومر زمن كان الرجال فيه يلقون بقنابلهم النووية فوق ذاك الوادي المرعب دون ان يسمعوا دوي انفجار، انما يعقب ذلك جفاف كل عضو تناسلي ذكري مع خصيتيه، وتحوله الى ما يشبه قطع من خشب آيل للسقوط..

وسنة فأخرى لم يعد الرجال يفكرون سوى بحماية انفسهم من الانقراض، يتنازلون عن كل شيء للولايات في صفقات غير عادلة لقاء ان تظل اعضاؤهم حيث هي، تعمل دون عطب مفاجيء..

و يعد الاسلاف تحطيم مصانع السلاح، و اتلاف كل اداة قتل اكبر هزيمة للولايات المختلطة امام الولايات الانثوية المتحدة..

وبعد زمن صمت ينذر بخطر مباغت، تتالت اخبار الاختراعات، والاكتشافات التي تبث من خلال محطات انثوية عالمية، لتجعل من البقاع التي سيطرت عليها تلك النسوة محصنة تحصينا كاملا ضد اي سلاح صنعه الرجل يوما ما..

تتذكر جدتي ان مواسم حصد البنات الرضع كان عيدا وطنيا لتلك الولايات الخالية من الذكور تماما وفق ما سمعته من والدتها يوما.. تقطف فيه البنات الصغار من اشجار تشبه رحم المرأة، ثم توضع في احضان الامهات اللواتي يرضعنهن طوعا من خلال حلمات دافئة تسحب حليها من خزان المدينة الكبير..

لم تتسع تلك الرقعة الغريبة المحتشدة باسرارها الا سلميا، كانت النساء تتجه من كل انحاء العالم صوب ذاك البلد الساحر، وهن يضمن ما بحوزتهن من اراض لوطن خاص بالانوثة وحدها بعد طرد الذكور منها..

وجدتي تضحك حين تذكر ان موضعا معروفا يطلقون عليه اسم (العلاوي) في العاصمة (نهداد) اصبح محل انطلاق الباصات الفضائية التي ترحل حسب جداول زمنية نحو جنات النعيم في زحل والزهرة والمريخ  وكواكب اخرى في مجرات لا يعرف عنها شيئا اي فرد من البلدان المختلطة الجنسين، اي التي مازالت تقر بحق الذكور في التواجد مع النساء.

ويقال ان هنالك متحف يسمونه متحف العهد الذكوري، فيه الكثير من الرجال المحنطين.. تحدثت عنه امرأة مسنة قبل وفاتها امام حشد متظاهرات يطالبن بحقوق كالتي يسمع عنها في الولايات الانثوية، وقد اعربت عن اسفها اذ لم يسعها الالتحاق بعصابات النسوة المتمردات على حروب حصدت الملايين بسبب اولادها الذكور الذين لم تستطع تركهم صغارا..

وقد تضمن خطابها توضيح لما حدث حين قرر رجل انتحاري اجتياز الحدود الفاصلة بين الولايات المختلطة والولايات الانثوية المتحدة.. قالت انه دخل دونما صعوبة،  وكأن الحدود قد فرشت له زهورا، ربما لاصطياده، وجعله عبرة لغيره، وانه قد تزحلق من الحدود حتى قلب العاصمة نهداد دون ان يدري كيف، كان كل شيء متموجا وزلقا.. والشوارع اشبه ببطون الكواعب الملساء، اما البيوت فنهود منتصبة بابواب تشبه الحلمات، والسيارات نهود اخرى تنزلق كأنها جحافل من حيامن تناضل لبلوغ بويضة انثى..

لم يكن هنالك من دخان، ولا غبار، والاريج يفوح في المكان حتى يخال المرء انه في قلب زهرة، وليس في مدينة.. الالوان اصابت عينيه بغشاوة، وخدر لذيذ سيطر عليه وهو يسير تائها بخطاه بين اجساد لم تسترها قطعة قماش..

علام القماش والازياء والاحذية؟؟؟، هكذا تساءلت المرأة العجوز، نحن نلبسها هنا اما بسبب مفردتي العيب والحرام ضمن القاموس الذكوري سيء الصيت، او لنثير الرجال باظهار بعض الجسد كي يصاب بالجنون ليرى ما خفي منه...

طاف الانتحاري كشبح، لا امرأة تلتفت اليه، فجميعهن ينزلقن كأجنة في بطون لا تعرف الم ولادة، يسبحن دون نقل الاقدام في بحر زلق السواحل، لا يشعر من يبلغه الا وكأنه الطير محلقا في سمائه..

معظم الروايات تتفق على انه قد مات بالسكتة الانتصابية، فقد عانى من انتصاب لا يتوقف منذ اول خطوة له نحو الحدود وحتى الملعب المسمى بلحظة الابداع...

والملعب هذا فيه سر تفوق الحضارة الانثوية على المختلطة، فهنالك ينهمر الحب كمطر ربيع يخضل الاجساد الطرية المشدودة، و النهود المنتصبة التي لم تتجشم عناء الارضاع، والبطون المستوية التي تجهل الحمل والترهل..

كل امرأة مع الاف من خليلاتها يعشن زمن النشوة الجماعي، كل الشفاه الناعمة تقبل غيرها، وكل الانامل الرقيقة تداعب ما تعثر عليه حولها من عطايا الاجساد العارية، وتتحد الاف من التنهدات كموسيقى عارمة يهتز لها الفضاء، وتجعل من السيول المتدفقة لذة محيطا زبده خمر دنان كواعب لم يعرفن المشيب، يقطعنه عوما نحو قمم الطاقة الذهنية...

وعند تلك القمم تصنع المعجزات، وتشع من العقول شموسا لا عهد لنا بها، تغير من كيميائية الخلايا العصبية، وتدفعها الى العمل باقصى قدراتها، ليغدو اينشتاين بعبقريته مجرد غبي احمق في المختبرات التي تمتليء بالنسوة المبتهجات بعد انقضاء لحظة الابداع..

تنبلج الحياة من بين ذراعي كل انثى، وتلج الاقدام الحافية المترفة المجرات من ممراتها المفتوحة دونما حصون، تلد شبكيات العيون اقواس قوس قزح تتردد في رحابها صدى ملايين من الضحكات الانثوية الشبيهة بالسيمفونيات، وتبنى المدن في رمشة عين، وتزرع الالاف من الزهور، وتحبو الملايين من الرضيعات على ارض من حرير..

لا يشكو احد فقرا ولا جورا، لا تعرف الكراهية، ولا الحقد..

المدارس سفوح جنات تمنح لطالباتها القدرة على التواصل مع كائنات اخرى عبر الفضاء.. والتلميذة لا تحصل على شهادة نجاح ان لم تقدم لمجتمعها الانثوي اختراعا جديدا يضيف سببا جديدا للسعادة..

الرجل الانتحاري ظل ينزلق بين ملاعب، ومسابح، وورشات عمل اشبه بقصور من ماس وذهب، وهو يكابد انتصابه حتى توقف قلبه مرهقا، وتم تحنيطه وعرضه في المتحف..

استاذ التأريخ يصف لنا بشاعة الاجداد، وحروبهم، وكيف تم تحطيم كل معامل السلاح بعد ثورات لم تتوقف من قبل الامهات، و كيف اصبح الرجل يسير برقة فراشة تحط على زهرة ربيع، ويتكلم بصوت اشبه بالكمان وهو يحاول ان يرضي زوجته بعد ان قررت المغادرة صوب نهداد..

قال اننا مررنا بفترة خشينا فيها من الانقراض، ولازلنا نخشى ذلك، فالنساء في نهداد يقطفن البنات من اشجار المحبة، لسن بحاجة لنا، والنساء هنا يرغبن في الهروب نحوهن، اصبح كل مائة رجل يخطبون ود واحدة فحسب، جميلة كانت ام قبيحة، فقط كي لا يظل احدهم وحيدا، وان اغضبها غادرته دون اسف صوب من هو افضل منه ليقضي بقية عمره متحسرا على ذكريات حضن امرأة..

قال ايضا ان المثليين حوربوا بشدة، فهم يقللون من قدراتنا على انجاب المزيد من الرجال.. وقد قتل كل من ابدى ميولا شاذة قتلة شنيعة..

زرت المتاحف مرارا لافهم دوافع الحروب، والقتل التي جعلت من اجدادنا عبيدا للموت، ولم استطع تخيل ذاك العالم الاحمق.. ولولا خوفي من السكتة الانتصابية لزرت تلك الولايات واعلنت ولائي المطلق لها..

في المدرسة لقحوني بلقاح مضاد للاغتصاب، رغم اني لم افهم كيف يطلب الرجل من المرأة شيئا دون رضاها..

كل ما كان، يبدو لي في منتهى الوحشية، قد تغير عالمنا واصبح اشد هدوءا مقارنة بتأريخ الدم، والاغتصاب، والفقر، والمعاناة، رغم ذلك مازالت الولايات الانثوية تمنع دخول الذكور.. انهن ببساطة لا يشعرن بحاجة لتواجدهم، بل يرين في شعر اجسادهم ما يخز الشوارع المورقة بنعومة، وفي شواربهم ما ينتأ بقبحه في حدائق تزهو بالجمال المنبسط امام الاعين..

تمنيت لو انني اصبح بنتا لمدة يوم واحد يسمح لي فيه ان اعيش في تلك الدنيا التي لا تعرف ليلها من نهارها.. فالشموس الصناعية بلا عدد.. والنهود التي اتمنى النوم في ظلالها هي بيوت واشجار..

قبلت امي صباحا وانا اقول لها:

انني اعلم حجم تضحيتك اذ لا تلتقحين بالنسوة هناك.. لا عجب انهن غيرن مسار البشرية من الحماقة نحو التواصل مع سكان مجرات لم نرهم يوما.. وقد صنعن جنات فيها مالاعين رأت، ولاأذن سمعت، ولاخطرت على قلب بشر.. هن كما انت، لا تعرفين سوى ان تمنحيني كل ما بحوزتك من حياة...

د . ماجدة غضبان


 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved