عالية كريم :
مفرداتٌ تعبق بأريج الأنثى، ومساحاتُ عشقٍ رحبةٍ مكتظة بظلالٍ قاتمة، ايقاعاتٌ متفاوتة مختزلة، ومشاعرٌ مسربلةٌ بحزنٍ أبدي، بحثٌ متعثرٌ عن كوةِ نورٍ تفضي الى حرية ضائعة، انوثة محترقة ..وفوانيس مطفأة .. روحٌ محاصرة .. نفسٌ عطشى .. هذا ما تضمنته المجموعة الشعرية للشاعرة المغربية فتيحة النوحو في ديوانها الأول " اليك أيها الضمأ كل هذا الإرتواء " الذي صدر في الشهر الثاني لعام 2008 م عن مطبعة " البوكيلي للطباعة " والذي تضمن اربعة عشر قصيدة ومقدمة للكاتب والصحفي العراقي فراس عبد المجيد والتي جاء فيها :
شاعرة تتدثر بعريها
اذا كان الحديث عن أدب أنثوي يثير نقاشا بين مستنكر لهذا المصطلح و متبن له، فان الخصائص الأنثوية في الأدب أمر لا يمكن الاختلاف حوله. إذ يبقى للمرأة ذلك العطر الأنثوي الذي لابد أن يفوح بين فواصل وسطور النص الأدبي بهذه الدرجة أو تلك. وإذا حددنا تلك الخصائص الأنثوية في جنس الشعر، فان هذا العطر يصبح أكثر انتشارا وأشد تأثيرا. ونصوص فتيحة النوحو الشعرية تدخل في هذا الأطار.
يلمس المتطلع إلى هذه النصوص، للوهلة الأولى، معجما خاصا يتضمن مفردات ذات إيحاءات ايروتيكية كالشهوة والجسد والعري والشبق، وغيرها من المفردات. إلا أن النص الشعري المتميز لا يتوقف، كما نعلم، عند حدود المفردات. فالكلمة هي بوابة الدخول إلى رحاب المعنى. هذا إذا استثنينا الحروف المجردة ومعانيها ودلالاتها الشكلية و اللفظية. فالحرف، كما يرى النفري: دليل العلم والعلم معدن الحرف.
وإزاء مثل هذا المعجم، لابد لنا من تقصي الأبعاد الزمنية و المكانية و الاستعارية لدلالات الكلمات و معانيها وإيحاءاتها، حيث أن تأمل مفردات ذلك المعجم لابد أن يتخطى صدمة الوهلة الأولى، لتتكشف أمامه تداعيات لا حصر لها، تخرج بالحال من مضمونه الحسي المجرد، والمرتبط باللحظة الآنية ( حيث يتمجد الزمن في فعل التوتر وارتعاش اللحظة ) إلى مضمون أعلى، يأخذ فيه الزمن بعدا صوفيا يخرج ذلك التوتر والارتعاش إلى مديات لا محدودة:
دعيني
أسائل عنفوان
الانفلات بعيدا
لعل زهوي
يهمس لي بعبق
المفردات
دعيني
أداعب غفوة
الاشتهاء
بعيدا
لعل انحطافي
يسبي
ألق الافتتان
دعيني
يا أبديتي أستل
من خدر
السهو
سمرا
يعمد نصبا لنحيبي
في هذا المقطع نجد أن المخاطبة هنا، المرتبطة ب "عنفوان الانفلات" و "عبق المفردات" و " غفوة الاشتهاء" ليست كائنا بعينه ، أو امرأة بعينها. بل هي أبعد من هذا وتلك بكثير. إنها الأبدية. وهذه المديات التي تحلق فوقها الشاعرة تجعل من العري دثارا يخبئ تحته عوالم ومجرات لا متناهية. (قصيدة: عارية إلا من عريي) بالإضافة الى ما تقدم، فإن اللافت في تجربة الشاعرة فتيحة النوحو، أنها توظف حتى الفضاء البصري للتعبير عن عالمين يكمل بعضها الآخر، برغم تناقضهما المفترض:
- عالم التوتر واللهاث المحموم، المعبر عنه شكليا بتقطيع أوصال النص إلى مفردات تتواتر متصالبة بشكل عمودي، كما في قصيدة "لوعة":
صليني
بشجون
الصمت
تدفئني
صليني
بنهود
القصيد
تذوي
هوسي
لأزمنتي
الملعونة
بالكشف
- عالم المدى المفتوح، عالم المطلق المرسوم بالبياض.
على القارئ أن يتوصل، بحسه المرهف، إلى إدراك العلاقة الجدلية بين هذين العالمين، وافاق ارتباطهما، تبعا لدلالات مفردات حسية ظاهريا، إلا أنها ميتافيزيقية جوهرا. مما تقدم ، يمكننا أن نعتبر فتيحة النوحو شاعرة تبحث عن الاختلاف بيشك مدروس، وليس منفعلا أو مفتعلا البتة. الاختلاف الذي يجعل منها شاعرة تتدثر بعريها، لتخفي عراء أكثر صميمية، عراء مختلفا لا يظهر منه شئ من مديات المطلق. والباقي تتركه للقارئ لكي يكتشفه و يتلمس، بنشوة، تضاريسه المشتعلة.