أنفاس عراقية في رواية مغربية/ فراس عبد المجيد

2007-11-25

 احتضن المعهد الفندقي والسياحي بمدينة المحمدية المغربية، لقاءاً ثقافياً متميزاً احتفاءاً بصدور رواية الأديبة الدكتورة اسمهان الزعيم وتكريماً لها بالمناسبة، وقد قدم الكاتب والصحفي العراقي فراس عبد المجيد بهذه المناسبة هذه المداخلة :

 حول رواية أسمهان الزعيم " ما قيل همسا "

فراس عبد ال//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/d0d2009b-5c7c-4478-a6c2-3740c52c1e76.jpeg مجيد

لا شك في أن تفاعل الثقافة العربية في جناحيها المشرقي والمغربي صار حقيقة واقعة تتحدى الاصوات التي تتردد هنا وهناك ، داعية الى التمييز بين ثقافتين متباينتين لا علاقة لاحداهما بالأخرى ، حسب ادعاء تلك الاصوات ، متجاهلة علاقة الالتقاء والتفاعل التي بدأت تترسخ بين هذين الجناحين في عصر الثورة التكنولوجية الهائلة في مجال الاتصال . فحين يكون العالم " قرية صغيرة " فلابد ان تكون الثقافة العربية ، في بعدها الانساني ، ركنا متجانسا من أركان تلك القرية ، برغم الخصائص والمميزات التي يحملها هذا الجناح أو ذاك . ولعل من أبرز مجالات التفاعل وأخصبها : المجال الابداعي ، والأدبي منه على وجه الخصوص .
كانت هذه الورقة تطمح الى تناول مختلف الاجناس الادبية للعديد من دول المغرب العربي ومشرقه . إلا أن ضيق المجال الزمني ، وما تحتمه المناسبة ، جعلنا نقتصر على رواية أسمهان الزعيم " ما قيل همسا " ، وما تحمله من أنفاس عراقية ، زادتها الكاتبة عطرا ، وأبدعت في بثها في مفاصل الرواية بشكل متميز ومتفرد .
قد لاتكون هذه الرواية هي الاولى التي تجمع المغرب ببلد عربي آخر في إطار إبداعي واحد ، فقد كتب الروائي العراقي محمود سعيد روايته " زنقة بنبركة " التي تدور أحداثها في المغرب ، وفي مدينة المحمدية تحديدا . وضمّن الروائي العراقي علي بدر روايته " صخب ونساء وكاتب مغمور " مساحة مهمة تدور حول المغرب والثقافة المغربية ومدينة طنجة وما تتميز به من تفرّد ، كما كتب المسرحي العراقي فلاح شاكر نصا مسرحيا حول شخصية " الزرقطوني " ودوره في مقاومة الاستعمار الفرنسي .. وخصص الشاعر سعدي يوسف ديوانا شعريا بأكمله للمغرب ، وهو ديوان " نهايات الشمال الافريقي " يتضمن أسماء مدن وأماكن وشخصيات مغربية معروفة كالدار البيضاء ووجدة ومراكش والرباط ، وعبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون وعلي يعته وغيرهم كثير .. بالاضافة الى المساحة المهمة التي خصصها لمدينة مراكش في ديوانه " محاولات " في مطولته الشعرية " مجاز وسبعة أبواب " . ولا تخلو قصص القصاصين العراقيين المفيمين في المغرب من إشارات تتعلق بالفضاءات المغربية ، أمثال قصص كل من : فيصل عبد الحسن وعلي القاسمي وصبيحة شبر وسامي النصراوي . ولم يقتصر الأمر على الكتاب العراقيين ، فقد كتبت السورية قمر كيلاني رواية " أيام مغربية " ، وكتبت اللبنانية " هاديا سعيد رواية " بستان أسود " ، وكتب الإماراتي مانع سعيد العتيبة رواية " كريمة " . وكلها تتناول أحداثا تدور في المغرب ،

أبطالها شخصيات مغربية . إلا أننا هنا إزاء كاتبة مغربية تكتب عن بلدان أخرى ، أهمها العراق ، بشكل يثبت الخصوصية المغربية ولا يتجاوزها .         

الرواية   

 ما يميز رواية " ما قيل همسا " لأسمهان الزعيم هو التعدد في الفضاءات والشخوص . فالرواية لا تقتصر على فضاء واحد ، وبلد واحد ، ولا على جنسية أو قومية واحدة ، بل تتعدى ذلك الى باقة من الشخصيات المتنوعة المشارب ، والى عدد من المدن والعواصم العربية والاوربية .. وهو ما يعطي هذا الأثر الادبي التميّز والثراء . إلا أن من يقرأ الرواية حتى نهايتها يجد ثمّة أنفاسا عراقية تطغى على سواها . واذا كانت الروايات والأعمال العراقية المذكورة حول المغرب جاءت جلها من خلال الاحتكاك بين الكاتب والبيئة والوسط المغربيين ، فإن أسمهان الزعيم استطاعت أن تنقلنا ( تنقلكم ) الى البيئة والوسط العراقيين دون أن تتاح لها فرصة السفر الى هناك وهو ما يمنح الكاتبة قدرة كبيرة وطيبة ونفاذ بصيرة حادا لاستشراف عمق غني بمعطياته الفكرية والحضارية والفنية كالعمق العراقي ، يتجاوز الامكانات الفردية في النقل والإبلاغ.   العراق حاضر بقوة في هذه الرواية . وحضوره يأخذ أشكالا متعددة نوجزها بما يلي : 

1- الشخوص

   في ص 35 من الرواية تطل علينا لأول مرة شخصية " بسّام " من خلال سطور ثلاثة لا تعطي أي معلومات ، وإن كانت حافلة بما سيأتي من أحداث كبيرة وضخمة . الرسالة تقول : " غاليتي مها  .. من عمان أطمئنك بأنني ما زلت على قيد الحياة ، وأنني أفلتّ من مخالب الموت بأعجوبة . لن أحكي لك الآن شيئا ، ربما يصلك خطابي اللاحق مفصلا من بلد عربي آخر . لا تقلقي عليّ فأنا بخير والحمد لله. " بسام الذي يحبك ويعيش على حبك دوما . تحياتي    كما نرى فالرسالة لا تخبر حتى عن جنسية كاتبها ، سوى أنه يكتب من عمان ، وأنه نجا من مخالب الموت بأعجوبة . إلا أننا نكتشف أن هذه الشخصية ، قبل أن تنسب الى بلد عربي معين ، لها دور كبير في حياة مها ، الشخصية المحورية في الرواية . حتى أن غيابه يكتسب أهمية الحضور ، فهو ( أي غيابه ) فتح باب المراسلة والتعرف إلى عمار وسلام و " تلك الأسراب المتباينة من أنماط الرجال الذين تواردت عليّ خطاباتهم كسيل عارم "  ص 36 و 37 . لا بل أن صمته هو الذي أدّى بمها إلى أن تندهش بشخصية " سعيد .. إبن البيضاء غير السعيد " . من هنا تضعنا الكاتبة في موقف من يرى في غياب بسام حضورا لافتا ، وفي صمته همسا لا ينقطع ، قبل أن نتعرف على جنسيته وخلفيته . ولعل أول إشارة يرد فيها اسم العراق  تأتي في استعراض مها لرسائل أصدقائها المولعين بهواية المراسلة ، وما نقله اليها صديقها عمار من أن أسيرا عراقيا في معسكر للأسرى في الكويت لا يرغب في العودة الى وطنه ، يطلب كفالته ظنا منه أنه كويتي . وهي إشارة ذكية  تعد بالكثير مما يليها من أحداث سياسية . واذا كانت شخصية بسام لم تفصح عن مضمونها أو خلفياتها وتفاصيلها ، فإنها في ص 79 تعلنها بوضوح ، الى جانب شخصيات عراقية جانبية تلتقي بها مها في ملتقى ثقافي في الجماهيرية الليبية وهم سهيل ووديع وأيوب . هنا تتضح شخصية بسام وجدي كاظم : عراقي من بغداد ، أستاذ في جامعة بغداد ، يتعرض لمتاعب سياسية في وطنه تدفعه الى السجن والهروب ، ثم الهجرة خارج الوطن . وهذا ما يحيلنا على الشكل الثاني من أشكال حضور هذه الشخصية التي تمثل صورة مصغرة للعراق . علما بأن تجربة هروب بسام من السجن تذكرنا بهروب الشاعر مظفر النواب ورفاقه من سجن الحلة / محافظة بابل ، دون علم الكاتبة بتفاصيل ذلك الهروب بالتأكيد . 

2 - الحدث   

 يتعمق الحدث في الرواية  على  مسارين متوازيين : المسار الوجداني ، والمسار السياسي  وإن كان أحدهما يكمل الآخر. إلا أن المسار السياسي هو الأكثر ارتباطا بالواقع العراقي ، حيث نقرأ في رسالة بسام الى مها ( وأدب الرسائل له حضوره في هذه الرواية ) تفاصيل رحلة العذاب التي ابتدأت باختلاط بسام ، عن طريق الصدفة ، بمظاهرة طلابية تقمع بقسوة  ويصاب فيها بسام في ساقه ، ويسجن مع عدد من المتظاهرين ليتحدد مصيره ضمن القوى الرافضة لنظام الحكم القائم آنذاك في العراق . ومن المؤكد أن هذه " الصدفة " لم تأت عبثا ، بقدر ما كشفت عن رفض قائم في أعماق بسام للنظام السياسي في بلاده، والا لكان أطلق سراحه ، واعتذر له عن خطأ اعتقاله مع الطلبة . ان قاعة المحاضرات في جامعة بغداد والسجن الرطب في محافظة بابل ورمال الصحراء على الحدود العراقية الاردنية كلها حاضنات لأحداث مترابطة تكشف لنا أبعاد شخصية بسام ، بما تحمله من بصمات عراقية ، تترك آثارها أينما حلت .   ثمة أحداث توثيقية تلجأ اليها الكاتبة من خلال نقاش عابر بين مسافرين في قطار ، أو بين طفلين يلعبان بالألعاب النارية والمفرقعات وربطها بالحرب التي شنتها أمريكا وحلفاؤها وأسفرت عن سقوط نظام الحكم في 9 نيسان 2003 .. كل ذلك يبدو للوهلة الأولى لا صلة له بشخصية بسام الرافض للنظام القائم آنذاك في العراق ، الا أنها تشكل ، بشكل أو بآخر ، الخلفية المتحركة لها ، والتي تزيدها وضوحا وبلورة .. هذا بالاضافة الى الاحداث التوثيقية الاخرى كأخبار المهرجانات المعروفة في العراق مثل مهرجان بابل ومهرجان الفنون التشكيلية وغيرها .

 3 - الموروث الغنائي والشعبي 

   هناك تفاصيل لم تغفلها الكاتبة يمكن وضعها في مجال الموروث الشعبي العراقي  مثل عبارة " شكو ماكو " ذات الأصل السومري ، وتكمن طرافتها في أنها تستفسر عما هو موجود وغير موجود في الوقت ذاته .. بالاضافة الى هذه العبارة نقرأ في ص 335 وما يليها الترنيمة العراقية المرتبطة بحمام الفاختة و المحمّلة بحس الفقدان والحنين .. والتي تقول  : " كوكوختي .. وين اختي ؟ .. بالحلة .. واشتاكل ؟ .. باجله .. واشتشرب ؟ .. ماي الله .. " وما يشابهها في الموروث الشعبي المغربي : " أيا حجيله حاح .. هزي حزامك طاح .. دّاتو الرياح .. الرياح النكاره .. والموت الغداره .. " . كما حفلت الرواية بالعديد من المقاطع الغنائية المعروفة في العراق مثل : " مرّينا بيكم حمد .." للشاعر مظفر النواب ، و" يا طيور الطايرة  "لزهير الدجيلي من ألحان كوكب حمزة .. وهي كلها ، مثل كل الغناء العراقي  مفعمة بالشجن والغربة والحنين . وبلغ من مهارة الكاتبة أنها حين أوردت مقطعا غنائيا آخر من أغنية " جذاب دولبني الوكت بمحبتك " انها كيّفت مقاطع هذه الأغنية بشكل منسجم مع الحدث . تقول في ص 323 : " .. فوجد لسان حاله يترنم من جديد بمقطع آخر من اغنية كذاب العراقية ، لكنه يرددها اليوم وفي صدره غصة وكآبة يزيد من حدتها شعوره بالارتياب والشك والغموض في كل ما حوله فانسابت من لسانه كلمات " بالروح إلك ميّة جرح .. وأحسبها لك حنيّة "

  4 - الموروث الديني

   تأتي مأساة استشهاد الحسين في كربلاء على رأس الموروث الديني الذي أولته الكاتبة اهتماما خاصا باعتباره ركنا أساسيا من أركان المشهد العراقي .بالاضافة الى استشهاد أبي منصور الحلاج في بغداد .. وهو ما يعكس اطلاع الكاتبة على الموروث الديني الخاص بالعراق . ولا ننسى إشاراتها الى الأضرحة المقدسة لكل من الشيخ عبد القدر الكيلاني وأبي حنيفة النعمان وموسى الكاظم . حتى أن استعراض مراقد هؤلاء الأئمة جاء متسلسلا بشكل يعكس معرفة ودراية بجغرافية مدينة بغداد .

 5 - الشعر

    على الرغم من غلبة النفَس الشعري على الرواية بشكل عام ، الا أن للشعر العراقي ، أو المتعلق بالعراق حصة كبيرة في الرواية فقصائد الجواهري والسياب ومظفر النواب  تتردد في فصول الرواية بشكل معبر .. ولم يقتصر الأمر على الشعراء المعاصرين ، بل تعداهم الى المتنبي وما له من جذور عراقية . حتى أن الشاعر السوري نزار قباني نفسه كان حاضرا من خلال قصيدته عن بغداد ، والتي يقول فيها :  

               مدي بساطي َ واملئي أكوابي 

              وانسي العتاب فق نسيت عتابي 

              عيناك  يا بغداد  منذ طفولتي 

              شمسان   نائمتان   في   أهدابي 

              لا تنكري وجهي فأنت حبيبتي 

              وورود  مائدتي  وكأس شرابي 

 6  الموروث الحضاري 

   ويتمثل هذا الموروث في معرفة الكاتبة الكثير من معالم وأحداث التراث الثقافي لحضارة وادي الرافدين كالحضارة البابلية والسومرية والآشورية . يأتي ذلك في حديثها عن جنائن بابل المعلقة ومسلّة حمورابي والقيثارة الذهبية السومرية .. لا بل انها اقتبست مقطعا من ملحمة كلكامش .. أول ملحمة في التاريخ تصور تمرد الانسان ونزوعه الى الخلود . 

7 - اللاوعي وتداعيات الرحلة  

 على مدى ثلاث عشرة صفحة ( بين ص 343 و ص 355 ) تأخذنا الشخصية المحورية في الرواية ( مها ) في رحلة عجيبة الى كل مفاصل حاضر وماضي بلاد الرافدين . صحيح أن عالم اللاوعي ، أو الحلم ، له حصته الوفيرة في الرواية ، الا أنه يبلغ ذروته في هذه الصفحات المشار اليها ، من حيث وحدة الموضوع ومسار الحَدَث وعمق التشخيص التراجيدي والملحمي . هذه الصفحات الثلاثة عشر ، هي بحق ، عصارة ما اختزنته الكاتبة في ذاكرتها ، وثبّتته ، باقتدار فني عال ، في لاوعي بطلتها مها ، لتصنع منها لوحة بانورامية تقرّب  العراق ، بكل جذوره وهمومه وتراثه وحضاراته وتقاليده وأغانيه وقصائده وأئمّته ومقدسانه وجغرافيته ومعماره واقواسه وأسواقه وأنهاره وضفافه وشوارعه وصياديه وخنادقه وبنادقه وعبيره وطيوره وفراشاته الى القارئ المغربي أولا والعراقي اولا .. وما نتمناه ثانيا  ان تاخذ الرواية طريقها الى القارئ العربي في كل مكان .   في الختام لابد من التأكيد على أن حضور العراق في رواية أسمهان الزعيم " ما قيل همسا " ليس حضورا خارجيا يتعلق بالمكان ، ولا حضورا وجدانيا يتعلق بالزمان ، بقدر ما هو حضور متغلغل في بنية الحدث وفي ضمائر الشخصيات على اختلاف وعيها و درجة اقترابها من سير الأحداث . انه الأنفاس التي تجعل النخلة لا تظهر الا بعضا من جرحها الدامي ، لتفرش ظلها واسعا على بساط الوجدان . 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved